أيلول يرسم معادلات القوة في العالم بين بوتين وأوباما

كتب زياد حافظ

الثامن والعشرون من شهر أيلول موعد مع التاريخ في الوعي العربي. وهذا الموعد له آلامه وآماله، فهو موعد سقوط الأمل بالوحدة التي جمعت سورية ومصر وموعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، لكنه موعد انطلاقة أعمال المقاومة في بيروت بوجه الاحتلال، وموعد انطلاق انتفاضة الأقصى المباركة بوجه العدوان والاحتلال والاغتصاب.

يتكرّر الموعد في الثامن والعشرين من أيلول بين العرب والتاريخ ويشاركهم العالم كله هذا اليوم، ليسجل بداية مرحلة جديدة في الوعي العربي كما في الوعي العالمي تحمل الآمال والأحلام في آونة واحدة. الثامن والعشرون من أيلول 2015 نهاية عهدٍ وبداية عهد، حيث خطابان أساسيّان يرسمان معالم المرحلة الحاضرة والمستقبلية. الخطاب الأول هو للرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يكرّس بداية نهاية حقبة، حقبة الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم. في ذلك الخطاب الذي قارب ثلثي الساعة كشف الرئيس الأميركي عن العجز بين الرغبة والقدرة. فالفجوة بين ما تريده الولايات المتحدة وما تستطيع تحقيقه واسعة ويصعب ردمها إلّا إذا ما غيّرت سلوكها، وهذا يعني تغيير طبيعتها العدوانية في العالم. أما الخطاب الثاني فهو خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. خطاب يؤسّس لمرحلة سياسية جديدة بعيدة من هيمنة القطب الواحد. خطابه نموذجي في السياسة حيث كرّس باللسان ما حقّقته الأيدي. الفعل عند الروسي سبق الكلمة، بينما الكلمة عند الأميركي كانت وبقيت كلمة من دون فعل!

استطاع الرئيس الروسي في خطاب لم يتجاوز الثلث ساعة إلّا بقليل أن يعرض لوحة شاملة ودقيقة لواقع العالم ويفنّد ادّعاءات خصمه الأميركي للنظرة العالمية بشكل عام وفي الملفّات الساخنة من ليبيا إلى أوكرانيا إلى سورية. في المقابل كان خطاب الرئيس الأميركي ترداداً لمواقف عجز عن تحقيقها في مجمل الملفّات التي عرضها: ليبيا، أوكرانيا، وسورية، بل كان جردة عن الآلام التي لحقت بتلك الدول بسبب الفعل الأميركي من دون تحقيق أهدافه، اللهم إلا إذا كان الهدف الفعلي هو التدمير فقط! في الملف الأوكراني، قال إنه لا تجوز الموافقة على انتهاك سيادة دولة متناسياً انتهاكه لسيادة أفغانستان والعراق وتدخلّه السافر في الشأن السوري!

سارع المراقبون والمعلّقون إلى إبراز الفوارق بين خطاب الرجلين. محطّة «سي.أن.أن» الأميركية اعتبرت أنّ الرئيس الروسي استطاع أن يبرز القوة الشاملة لروسيا، بينما أخفق الرئيس الأميركي في ذلك. سرق الرئيس الروسي الأضواء بسبب جوهر خطابه، بينما كان الخطاب الأميركي أكثر شوقاً في الإلقاء ولكن أكثر فراغاً في المضمون.

الفرق في المضمون ليس وليد الصدفة، بل يعكس التغيير في موازين القوة بين الدولتين. المقارنة بالمطلق قد لا تعطي ذلك الانطباع. فما زالت الولايات المتحدة أكبر دولة في العالم وقدراتها الاقتصادية والعسكرية ما زالت مهمة، ولكن قياداتها على مختلف المستويات لا ترتقي إلى مسؤولية أهمية تلك الدولة. في المقابل، فإنّ روسيا استطاعت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن تعيد بناء قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مستفيدة من دروس التاريخ. فقرة فارقة ولافتة في خطاب الرئيس الروسي كانت إشارته إلى خطأ الاتحاد السوفياتي في تصدير نموذجه السياسي والاقتصادي إلى العالم، و»الاختبارات الاجتماعية» الفاشلة التي نتجت من ذلك. وهذا الخطأ ترتكبه الولايات المتحدة في تصديرها النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأميركي، وما يسبّب من مآسٍ في العالم وحتى في الولايات المتحدة. أشار الرئيس الروسي إلى ضرورة احترام الشعوب الأخرى وخياراتها، كما لفت إلى خطأ فَرْض خيارات الولايات المتحدة على العالم المدّعية أنها على حق. كلامه سياسي بامتياز ولكن على قاعدة فكرية وأخلاقية نادراً ما يتمّ البناء عليها. خطاب بوتين مبنيّ على إنجازات وأفعال حقّقها فيعطي صدقية لما يريد تحقيقه في ما بعد، بينما خطاب الرئيس الأميركي تسجيل لإخفاقات سياساته ويقلّل من صدقية استراتيجيته ورؤيته.

من المحطّات المفصلية في خطاب الرئيس بوتين هو تفنيد ادّعاءات الرئيس الأميركي بأنّ لروسيا طموحات. فكانت الابتسامة الساخرة وهو يقرأ خطابه فيقول: «أليس لغيرنا طموحات أيضاً؟» أيّ بمعنى آخر، الولايات المتحدة لها طموحات ولا يحقّ لغيرها ذلك وهذا لم يعد مقبولاً!

ويخلص الرئيس الروسي إلى ضرورة التعاون فيمدّ يده للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً للتعاون وفقاً لما هو مقبول وخلافاً

لما هو مرفوض. المبادرة عند بوتين وليس عند أوباما. فإما أن يلتحق الأخير بالقطار الذي يطلقه بوتين وإما أن يفوته. إنّ ما أزعج إلى حدّ كبير الإدارة الأميركية هو إعلان التنسيق الأمني بين سورية والعراق والجمهورية الإسلامية وروسيا. لم تتوقع أن يكون العراق منخرطاً في ذلك التحالف الجديد، ما يدّل مرّة أخرى على إخفاق استخباري كبير لدى الولايات المتحدة، كما يدلّ أيضاً على سوء تقدير للموقف وقراءة المشهد في العراق.

في المقابل، فإنّ الخطاب الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص يعبّر عن مواقف وسياسات تعكس مصلحة خاصة وضيّقة غير مستندة إلى قاعدة فكرية ناهيك عن أيّ قاعدة أخلاقية. من هنا كان تركيز خطاب بوتين في بدايته وختامه على دور الأمم المتحدة كإطار وحيد يضبط إيقاع العلاقات الدولية. عودة الاعتبار للأمم المتحدة عند الرئيس الروسي ركن أساسي في استراتيجيته السياسية، بينما النظرة الأميركية للأمم المتحدة هي أنها امتداد للوزارة الخارجية الأميركية. لم تعد هذه النظرة صالحة ومقبولة. أكّد الرئيس الروسي أنّ العالم قد تغيّر وأنه لا بدّ من مواكبة ذلك التغيير في المؤسسات وفي السلوك السياسي للمسؤولين.

بين لاعبي البوكر والشطرنج

خطاب الرئيس الأميركي يعكس سلوك الرجل الأميركي الذي يعتبر لعبة البوكر استراتيجية في السياسة والصدام عند رعاة البقر أو في رياضة الكرة الأميركية كأسلوب في فضّ المشاكل. خطاب الرئيس الروسي يعكس سلوك لاعب الشطرنج الروسي الذي يُقدم على خطوات هادئة ومدروسة لتحقيق أهداف استراتيجية. للمناسبة كان الروس أبطال العالم في لعبة الشطرنج لحوالى قرن من الزمن، وما زالوا يتصدّرون قائمة اللاعبين المرموقين . لاعب البوكر يستند إلى علم النفس بينما لاعب الشطرنج يأخذ بعين الاعتبار علم النفس ولكن يرتكز إلى المنطق. المحصّلة هي أنّ لاعب الشطرنج يتفوّق على لاعب البوكر مهما كانت مهارة الأخير.

مقاربة بوتين للقضايا الساخنة تجمع التحليل والرؤية الاستراتيجية. ففي قضية الإرهاب، أشار إلى دور ومسؤولية الاحتلال الأميركي في نشأة الجماعات المتشدّدة، كما أن القيادات العسكرية لتنظيم «الدولة الإسلامية ـ داعش» هي من ضبّاط وأفراد الجيش العراقي المنحلّ على يد الاحتلال. وهنا أشار إلى المسؤولية الأميركية المباشرة في ذلك الملفّ. كما دعا الرئيس الروسي المسلمين إلى المشاركة في الحملة على الجماعات المتشدّدة وركّز على مسؤولية رجال الدين في هذا الموضوع. في المقابل، لم يعرض الرئيس الأميركي مقاربة لمواجهة الجماعات المتشدّدة التي تهدّد دول المنطقة وحتى العالم. وبما أنّ روسيا تترأس حالياً مجلس الأمن أعلن الرئيس الروسي دعوة وزارية في مجلس الأمن لمناقشة قرارات التنسيق العالمي في مكافحة الجماعات المتشدّدة.

أما في قضية الأزمة السورية، فاعتبر الرئيس الروسي أنّ عدم دعم الدولة والقيادة في سورية خطأ فادح لن يحقق أيّ نجاح في مواجهة الجماعات المتشدّدة. وهذا تناقض واضح مع الرؤية الأميركية التي ما زالت على عدائها مع الدولة وقيادتها، وبالتالي رافضة التنسيق معها في مواجهة المتشدّدين. لكن في آخر المطاف ليس هناك مفرّ من التعاطي الإيجابي مع الدولة وقيادتها إذا ما كانت الولايات المتحدة جادّة في «حربها على الإرهاب» على حدّ قولها. وهي كالتي كانت تبكي عشية زفافها فقال لها والدها إنْ كان الزواج كرهاً عليك فلا داعي للمضيّ بالزفاف. فقالت له: أبكي وأذهب إلى زفافي! هذا هو فحوى الخطاب الأميركي الذي يعكس موازين القوة الفعلية على الأرض.

ما يمكن استخلاصه من المشهد الأممي هو تكريس التغيير في موازين القوى في العالم. فالولايات المتحدة أصبحت فاقدة للمبادرة وقراراتها ومواقفها لا تخرج عن إطار ردّ الفعل. فالفعل أصبح في مكان آخر وهذا هو الذي يمثّل بداية المرحلة الجديدة.

هناك نقطة أخيرة، وهي أن سارع بعض المراقبين والمحلّلين والملتحقين بثقافة الهزيمة للإشارة إلى أنّ العرب غائبون عن هذه التحوّلات.

سورية هي الموضوع…

في هذا السياق نسجّل الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: هي أنّ سورية كانت في صُلب الخطابين. كما أنّ الرئيس الأسد كان موضوع الخطابين والخلاف بينهما. الملاحظة الثانية: هي أنّ الحرب على سورية وقبلها على العراق وليبيا واليوم على اليمن هي حرب على كلّ من يقول لا للموقف الأميركي. فشعوب هذه الأمة تقول لا ودول الغرب والولايات المتحدة تشنّ عدوانها عليها. السلم العالمي أصبح بيد المقاومين. الملاحظة الثالثة: هي أنّ صمود سورية وصمود المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين غيّر العالم فجعل الصمود الروسي في وجه الولايات المتحدة ممكناً، بل أتاح الفرصة لعودة روسيا إلى دورها على المسرح العالمي ومعها الصين ودول بريكس ومنظمة شانغهاي. صمود سورية والمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين أتاح الفرصة للجمهورية الإسلامية في إيران للمضيّ في مفاوضاتها ونجاحها مع الغرب في الملف النووي. فالإنجاز الذي حقّقته الجمهورية الإسلامية من ذلك الصمود، وإنْ ساهمت في دعمه منذ البداية. فالعرب موجودون في الأمم المتحدة وفي الخطابات، وإنْ كان حكاّمهم مغيّبين أو غائبين. فالعرب دفعوا بدمائهم انتصارات حلفائهم وأصدقائهم. أما انتصاراتهم المقبلة في استرجاع فلسطين وتحقيق الوحدة في مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص والتجدّد الحضاري، فهي مسألة وقت بسبب الجهود والمقاومة المبذولة وليس بسبب أيّ مسألة أخرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى