لونا القصير… وبلاد القبلات
الياس عشّي
قبل سنة وبضعة أشهر، وتحديداً في السابع من أيار من السنة المنصرمة، كنتُ أجلس في الموقع ذاته الذي أجلس فيه الآن لمناقشة كتاب «القميص الزهريّ»، الابن البكر للونا القصير.
ولم تمضِ أشهر على مشهد التوقيع، حتى بدأت ملامح كتاب آخر تظهر على صفحة تواصلها الاجتماعي. ملامح تبشّر بولادة جديدة لمولود آخر اسمه «بلاد القبلات».
وصدر الكتاب.. مئتان وأربع وخمسون صفحة حافلة بالدفء والطبعيّة والذاكرة الجميلة. وكنت بين صفحة وأخرى ـ كما عادتي عندما أتهيّأ لمناقشة كتاب ـ أشعر بالخوف من أن تنطبق عليّ مقولة الجاحظ «إذا كان الكره يعمينا عن المحاسن، فإنّ الحبّ يعمينا عن المساوئ». إلّا أنّ هذا الخوف بدأ يتلاشى مع الصفحات الأولى. فأسلوب لونا صار أقرب إلى الواقعية. والحبكة في قصصها القصيرة المتلاحقة تشجعك على الاستمرار في التنزّه ببلاد القبلات، والألفاظ مستعارة من حياتنا اليومية والبسيطة، والسرد يبتعد، قدر الإمكان، عن الثرثرة، ليكون دوره الرئيس مناطاً بالكشف عن نفسيات الأشخاص وأخلاقهم ومواقفهم من العالم.
صفحة… صفحتان… خمس صفحات، عشرون وأكثر… ولا تتعب. تشعر بالفرح وأنتَ تكتشف رمزية العنوان، وتتعرّف إلى بلد من هنا، وآخر من هناك. القاسم المشترك بينهما قبلات لا نراها إلّا في حقول الياسمين والفراشات، وفي قصص الأطفال، وفي طبيعة ما عرفت يوماً كيف تتعامل مع الصقيع.
«أنا بالفعل أمام موهبة أدبية بأسلوب مختلف». قلت ذلك بيني وبين نفسي، ثمّ تابعت رحلتي في بلاد القبلات، حتّى وصلت إلى قولها: «لو كنت أعلم أنّ القبلات ستقتل حزني، لكنت قبّلت الدنيا قبل أن أرحل».
تقول هذا… تدهشك… ثمّ تدير ظهرها تاركة لبطلة الرواية أن تأخذ بيدك لتزور معها شاطئ الطفولة الغارق بالزبد الأبيض. وكيف كانت مع صديقتها أمّ الجدائل كما تخبرنا «نسترق النظر إلى جارنا وصديقته وهما يتعانقان، يوم كانت القبل ممنوعة»، ومن الشاطئ تنتقل بك إلى المدرسة، ومن كليهما إلى القوانين العرفية التي كانت تحكم منزلها.
وفجأة، ترى نفسك إلى جانب لونا في أتون الحرب اللبنانية الأهلية وويلاتها التي لم ترحم أحداً. لكنّ الكاتبة المصرّة على الحياة ترفض إلّا أن يكون ثمّة مكان للحبّ، فتتحدّث عن تقارب العائلات. وتعود بالذاكرة إلى موسم المراهقة، إلى قصة حبّ قصيرة جمعت البطلة «بصاحب العينين السوداوين».
وتقلّب الصفحات، حتّى تصل إلى الهجرة وأوجاعها، لا بل إلى جراحها التي لا تندمل: «بعد سبع سنوات في الخليج، بدأت إلى جانب عملي بالكتابة، وسرعان ما تعلّقت بها… لم أتوقّف، ورحت أكتب في وقت فراغي. لم أعرف يوماً أنّ الكتابة جزء منّي … . لقد اكتشفت عالماً آخر أجمل بكثير، وجدت السلام في قرارة قلبي، فعشت من جديد».
أعادتني لونا في اعترافها الذاتي هذا إلى ما قاله الطيّب الصالح في روايته البديعة موسم الهجرة إلى الشمال: «إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحبّ من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بدّ أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تُقطَف، كتب كثيرة تُقرَأ، وصفحات بيضاء في سجلّ العمر، سأكتب فيها جُملاً واضحة بخطّ جريء».
القانون الطبيعي للانتصار على الذات، كما نفهم من الطيب الصالح، أن نكتب، وأن تؤخذ الأشياء عنوةً، وأن نقاتل من أجلها، وأن نوازن بين القوة والحنين. وهذا ما فعلته لونا، لا في موقع التمترس وراء الكتابة فقط، إنما في مواقع كثيرة، قد يكون من أهمّها مخاطبتها للإله الذكوري قائلة: «… علّمني القوة لأعلّمك الحنين… لكن دعني أجلس على كفٌك وأستكين… وعِدني بأنّك لن تفترس من بعد اليوم جميع العصافير».
وفي اللحظة التي تتهيّأ فيها للدخول إلى الطبيعة بحراً وسهلاً وجبلاً، تعيدك لونا، في صفحات مثيرة ودامعة، إلى الزعيم أو البيك، فتتعرّف إلى شخصيته الآسرة، وعاداته الجميلة، وحبّه للناس، واحترامه للصغير والكبير، واتقانِه السّماع، وتمسّكه بفضيلة الصمت. ولا أخفي إذا قلت إنّ لونا في تصويرها مشهد موت البيك الزعيم كما سمّته قد حرّضتني على البكاء، ودفعتني إلى المقارنة بين سياسيي اليوم وسياسيي الأمس…
ثمّة كارثة أخلاقية لو حاولت المقاربة… سأتجاوزها… اعذروني.
إذاً، نحن أمام تجربة جديدة في عالم الكتابة القصصية… اختارت الكاتبة ملعباً خاصّاً بها… لم تتقيّد بالتعريفات الأكاديمية لفنّ الرواية. ولا بالشروط الصارمة للانتقال بين الحبكة والعقدة والحلّ. كانت أكثر ميلاً إلى الأقصوصة على رغم مخاطرها، وعلى رغم شِعابها المليئة بالفِخاخ.
وقد تجلّى ذلك في أقصوصة الرحلة التي انتهت من دون نهاية، مفسحة في المجال للقرّاء كي يغلقوا الستارة على نهاية ترضي مزاجهم.
وأخيراً، لا بدّ من القول إن لونا القصير اختارت نهاية لم ترضِ ذوقي كقارئ. أمّا كناقد، فأنا أحترم ما اختارته. فالرواية روايتها، وأهل مكّة، كما يقال، أدرى بشِعابها.
مبروك لكِ ولوالديك وأخوتك وعائلتك هذا الإيقاع الجميل…
ونحن بانتظار المزيد.