العراق: ثورة شعبية أم هجمة «داعشية»؟

د. إبراهيم علوش

ليس المعيار الأول والأهمّ لدعم أي حراك مدى صحة المظالم، الحقيقية أو المفترضة، التي تخلق ظروفه المواتية، إنما الأهمّ هو:

أوّلاً، أن يكون برنامج الحراك وطنياً، بمعنى الانطلاق من معالجة القضايا الوطنية من منظار مصلحة البلد ككل، ومن منظار مصلحة الأمة، لا من منظار مصلحة هذه الطائفة أو تلك.

ثانياً، أن تكون قيادة الحراك مكوّنة من شخصيات وقوى وطنية وقومية، لا من عناوين طائفية أو عرقية أو جهوية فئوية.

ثالثاً، أن يكون الحراك مفعّلاً من الداخل، المحلي والعربي، لا مرتبطاً بقوى الهيمنة الخارجية بغض النظر عن اسمها، وأن يكون بالأخص مناهضاً للإمبريالية والصهيونية واذنابهما، من دون أن يصبح ذلك ذريعة للتفريط بالسيادة القومية ولو لجهة حليفة.

مجموعة المعايير هذه سبق أن صغتها في بدايات عام 2013 في مادة عنوانها «من العراق للبحرين، حراك المحاصصة الطائفية حراكٌ للتدمير لا للتغير»، قلت فيها أيضاً: «الحراك الذي تكون عناوينه وآلياته وقيادته طائفية… هو حراك غير جدير بالدعم، حتى لو حرّكته مظالم حقيقية»، وكان الحديث يدور آنذاك عن حراكي الأنبار والبحرين معاً.

أما اليوم، بعدما اقترن حراك بعض المحافظات السنية في العراق باسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فإن ذلك يفترض أن ينقلنا مباشرةً من حالة «عدم الدعم» مع تفهم الأسباب، إلى الإدانة الواضحة العلنية، بما تمثله «داعش» من نفس طائفي وممارسات إجرامية ودور تفكيكي ومشاركة في الحرب الكونية على سورية وخدمة للمشروع البترو-وهابي في الإقليم.

غير أنّ البعض، بينهم من وقفوا ضد «داعش» في سورية، راح يوحي أن ما يجري في محافظتي نينوى وصلاح الدين هو «ثورة شعبية» عراقية بقيادة ضباط وطنيين وقيادات بعثية وعشائرية ضد حكومة المالكي الطائفية وسياساتها التهميشية وفسادها المستشري وجرائمها الكثيرة، ما أدى إلى خلط الأوراق ويا للأسف، حتى لدى بعض المناهضين لحكومة الولايات المتحدة وللعدو الصهيوني …

من المؤكد أن نظام المحاصصة الطائفية الذي كرسه الاحتلال الأميركي في العراق ما كان ممكناً إلاّ أن ينتج مثل هذه النتيجة. لكن طائفية المالكي وغيره لا تواجه بطائفية مضادة، على طريقة رد الصاع صاعين، بل ببرنامج وطني للعراق كلّه تقوم على تحقيقه قيادات وقوى ذات جذور وامتدادات في كل البلاد بأسرها، وتنطلق من مناهضة الإمبريالية والصهيونية، ومن منطق الحفاظ على وحدة العراق وعروبته. فالعلّة الأولى هي إفرازات الاحتلال، والتأثيرات الإقليمية، والحزبية المستندة إلى الطوائف والمناطق، ما كان سينتج حرباً أهلية عاجلاً أو آجلاً.

ليت المشكلة تقتصر على ذلك، إذ كنت كتبت في الذكرى الأولى لاحتلال العراق، أكرر، الأولى، أي قبل أكثر من عشر سنوات: «العائق الأساسي اليوم أمام امتداد المقاومة العراقية، ووصولها إلى غايتها في تحرير العراق هو … عدم قدرة المقاومة على بلورة أطر سياسية مقنعة لجماهير الجنوب العراقي. فالأداء العسكري للمقاومة يرتطم على الدوام بهذا الحاجز السياسي الذي لا يمكن تجاوزه طالما بقيت المقاومة ضعيفة الامتداد في الأوساط الشيعية». وأضيف في المادة نفسها: « إذ أن حملات التهجم اللفظية على الشيعة في العراق لا تفيد إلا المحتل، كما أن التفجيرات ضد المدنيين الشيعة وهي غير الهجمات المشروعة على المتعاونين مع الاحتلال ، بغض النظر عن هوية منفذيها، تفيد في إخراج الاحتلال من مأزقه من خلال معركة طائفية».

لا تدفعنا طائفية المالكي إذن، مهما بلغت، إلى الارتماء في حضن «داعش» ونهجها، ولم تقتصر الطائفية على المالكي وحده. لكن ما حدث هو أن سياسات النظام الحالية من ناحية، والتدخلات السعودية والخليجية والتركية من ناحية أخرى، وانتشار الفكر التكفيري في عموم الإقليم بدعم وتمويل بترودولاري من ناحية ثالثة، جعل بعض المحافظات العراقية حاضنة اجتماعية-سياسية لـ«داعش» التي كانت أسست وجوداً لها في محافظتي دير الزور والرقة المجاورتين للمحافظات السنية في العراق. وهي للعلم الحاضنة نفسها التي سبق أن طردت «القاعدة»، التي تشكل «داعش» نسخة أكثر تطرفاً منها، قبل بضع سنوات فحسب.

نصر على كلمة «حاضنة»، لأن القيادة الميدانية هي في يد «داعش» التي غنمت 430 مليون دولار وسبائك ذهب من فرع البنك المركزي في الموصل، والكثير من الأسلحة الثقيلة، ولو كانت القيادة للبعث وضباط الجيش العراقي السابق والعشائر في نينوى وصلاح الدين لما أمكن تصور تخلّيهم طوعاً عن مثل تلك الغنائم التي كان ممكناً أن تلعب دوراً كبيراً في تعزيز سيطرتهم وتمددهم.

كذلك نلاحظ أن «داعش» بسطت سيطرتها على الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، فأصدرت عبر «المكتب الإعلامي لولاية نينوى» تعليمات للسكان عن كيفية التصرف في حياتهم اليومية تضمنت في ما تضمنته منع المجالس والتجمعات والرايات ما عدا راية «داعش» وحمل السلاح تحت طائلة الموت، وما كان ممكناً أن يفرض مثل ذلك لو اعترفت «داعش» بغيرها حتى كحليف ثانوي، ويعزز ذلك استمرار تهجم «داعش» على حكم البعث في العراق في بياناتها.

أضف إلى ذلك صور المجزرة التي زعمت «داعش» أنها ارتكبتها في تكريت في حق الطلاب الشيعة في الكلية الجوية، وتهدف إلى استفزاز النعرة الطائفية في العراق بالطبع، لكن ذلك ما يكشف في الآن عينه أن البعث وعناصر الجيش العراقي السابق ليسوا من يسيطر على مجرى الأمور.

إذن ليست هذه «ثورة شعبية» بمعايير مصلحة العراق أو الأمة، ولا قيادتها وإدارتها من البعث والجيش العراقي السابق والعشائر، إنما باتوا حاضنة لـ«داعش»، ما يشكل انحرافاً كبيراً عن نهجهم الوطني والقومي الذي عرفوا به، ولن يمضي وقت طويل قبل أن ترتد الوحوش «الداعشية» عليهم إذ لم توفر حتى أساتذتها ومعلميها في تنظيم «القاعدة» من قبلُ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى