السيد نصرالله وخطورة تبلور المشهد الأخير
ناصر قنديل
– دأب السيد حسن نصرالله، ومن ورائه حزب الله العمود الفقري للمقاومة اللبنانية لـ«إسرائيل» ومحقق أبرز إنجازاتها، طيلة الفترة الفاصلة عن اندلاع الأزمة السورية، على تقديم خطاب حريص على ثابتتين، الأولى تقوم على رفض المقاومة الدخول في عداوات ومساجلات ومواجهات ومناوشات تشغلها عن العدو الذي لا تعترف بغيره عدواً وهو «إسرائيل»، والثانية رفض الدخول في معادلات الربط التقليدي للحرب على «إسرائيل» بالمواجهة الحكمية مع الرجعية العربية، كما كان حال خطاب جمال عبد الناصر، لأنّ هذا الربط يفقدها التميّز بحصرية العداء لـ«إسرائيل» من جهة، ويرتب منعكساً لبنانياً داخلياً يفقد المقاومة قدراً من الهدوء الداخلي تحتاجه إنْ تعذّر توهّم تحقيق الإجماع حولها، وربما يورّطها بالانزلاق إلى الفتنة التي تتخذ شكل صراع مذهبي بسرعة وتصير عنصر استنزاف للمقاومة وشعبها وبيئتها من جهة أخرى. لم تفعل المقاومة هذا لنقص العلم بالمواقف والأدوار، ولا بسبب العجز عن تقييم القوى وعلاقاتها ومنطق وقاعدة علم السياسة الذي يحدّد خيارات الدول، ويجعلها أمام قضية مفصلية في المنطقة وفي العلاقات الدولية بحجم أمن «إسرائيل»، ضمن محاور واضحة ومحدّدة، تنخرط في الصراع مع «إسرائيل»، أو تتموضع ضمن معسكر الخنوع والتلكؤ عن نصرة القضية الفلسطينية وشعبها، وتعتبرها ضمناً عبئاً عليها وعلى تحالفاتها العميقة دولياً وإقليمياً، وتشعر بالحرج من كلّ حضور مضيء لهذه القضية، لأنه يفرض عليها مواقف لا ترغب بها، وتنظر بعين العداء لكلّ مقاومة تحقق انتصاراً على «إسرائيل» لأنها تفضح تواطؤها وتخاذلها وتكشف زيف ادّعاءاتها. كان فعل المقاومة بوعي ويقين أنه الطريق الأسلم لخدمة قضيتها السامية.
– ما بعد حرب تموز 2006 ورغم ورود الكثير من الوقائع التي تكشف الأدوار العربية التي شاركت في التآمر على المقاومة، ورغم ظهور وانكشاف الكثير من المواقف المحلية المرتبطة بها، بقيت المقاومة وبقي السيد نصرالله وحزب الله، على منهجية تفادي تسمية الأشياء بأسمائها، وبقي السعي إلى تدوير الزوايا، والسعي إلى طيّ الصفحة، انطلاقاً من الحساب نفسه، وفوقه ترك الباب مفتوحاً لهذه القوى المحلية والعربية لمراجعة سياساتها واكتشاف لاواقعيتها في الرهان على أسطورية القدرة الأميركية ــــــ «الإسرائيلية»، وخطأ توقعاتها بهزيمة المقاومة، وفتح الباب لسياسة أشدّ حذراً وأقلّ تسرّعاً في المواجهات المقبلة. وتوضح سيرة المقاومة خلال ربع قرن، أنّ هذه المنهجية ساعدت المقاومة على تحقيق انتصاراتها وتعظيم قوتها، وبناء نسيج وطني يحميها وحكومات تتبنّى في بياناتها ثلاثيتها الشهيرة بتكامل الجيش والشعب والمقاومة، لكن السؤال يبقى مع مرحلة ما بعد الأزمة السورية وصعود المقاومة والسيد نصرالله شجرة خطاب جديد، خطاب تسمية الأشياء الحقيقية بأسمائها الحقيقية، هل ما كان صحيحاً في الماضي، لا يزال صالحاً للحاضر والمستقبل؟
– تطوّر خطاب المقاومة والسيد نصرالله تدريجياً، على إيقاع الأزمة ومن ثمّ الحرب في سورية، من نصح المعارضة إلى توصيفها، ومن ثم كشف هزال وجودها وتحوّلها لمجرد يافطات لدول أجنبية، ومن ثم نصح ما كان يُسمّى بجماعات الجهاد السلفية، وصارت اليوم علناً توصف بحقيقتها كتنظيمات إرهابية، بعدم التورّط في الحرب لأنّ الخطط الأميركية ــــــ «الإسرائيلية» للفتن المذهبية تراهن عليها لتشتعل بها هذه الفتن، ومن ثم تشعلها هي، ومن ثم توصيف دور هذه الجماعات والانتهاء بقتالها، ومن ثم ومع تقدّم الحرب في سورية، إلى نصح الحكومات الخليجية ومعها الفروع اللبنانية التابعة، بعدم الرهان على سقوط سورية ولا على تقسيمها ولا على الفتن، وخصوصاً عدم الرهان على الإرهاب، لأنّ كلّ وصفة سوء لسورية ستصيبها هي قبل أن تصيب سورية. ومن ثم تطوّر الخطاب إلى توصيف التورّط الخليجي وعلى رأسه السعودي في الحرب وتوليه قيادتها وتمويلها واستجلاب الإرهاب إليها، وعلى إيقاع حرب اليمن الوصول إلى اعتبار السعودية سبب كلّ بلاء عند العرب، بما جعل المقاومة في خطابها تتطابق مع خطاب جمال عبد الناصر في الخمسينيات، وأثناء حرب اليمن، فهل تكتشف المقاومة هذه الحقيقة التي سبقها إليها عبد الناصر أم تكشفها فقط؟
– يمكن للمتابع والمراقب، خصوصاً إذا كان قريباً من جسم المقاومة وعقلها وطريقة تفكيرها، أن يتحقق بيقين أنّ المقاومة والسيد نصرالله واثقان من صحة قول عبد الناصر منذ البدء، وفي المقابل أنّ المقاومة والسيد نصرالله راغبان بمراكمة أكبر كمية من الانتصارات على طريق فلسطين قبل الاضطرار إلى خوض المواجهة المباشرة مع التنظيمات الإرهابية المتطرفة ومع السعودية على السواء، ولذلك كانت المقاومة المتيقنة من أنّ هذه المواجهة آتية لا ريب بل تسعى لاستئخارها، لتشقّ طريق نصرها بأعلى درجات الهدوء، وتراكم قوتها وتبني صدقية سمعتها ووفائها لخياراتها نحو فلسطين لأوسع شريحة بين العرب والمسلمين، وألا تذهب إلى هذه المواجهة إلا مرغمة، وقد حاولت كلّ ما يمكن لتفاديها. ومن فوائد الاستئخار هنا أنه يرجئ المواجهة لتوقيت تكون فيه المقاومة أشدّ وأصلب عوداً، وتكون المنطقة في قلب توازنات تتغيّر فيها الحسابات، لكن المقاومة واثقة أنه في مرحلة معينة من تنامي قوتها، ومهما بلغت نعومة وسلاسة ومرونة خطابها فإنها ستكون بطلب أميركي ـــــ «إسرائيلي» الجهة الأولى التي يُطلب رأسها من قبل تنظيم «القاعدة» والسعودية، لما يمثلان من خطوط خلفية احتياطية لحماية المصالح الأميركية، وحماية ظهر «إسرائيل».
– الحرب على سورية ليست بعيدة عن حرب بالوكالة على المقاومة، والانخراط الإيراني والروسي فيها، يجعل المقاومة طليعة محور دولي إقليمي، في مواجهة حلف آخر، حيث لا يفيد وهم التحييد والحياد، وما يجري في هذه الأيام يضع العالم كله أمام هوامش خيارات ضيقة، وحدها تبدو السعودية مصرّة على الابتعاد عن كلّ مخارج النجاة، فالغرب الذي يساوم روسيا وإيران على حسابات وضوابط لما بعد الحرب، يعرف أنّ الاتجاه نحو نصر حلف المقاومة مرسوم ومحسوم، وتركيا ستعرف كيف تتفادى الخسارة القومية بتدفيع حزب العدالة والتنمية ومن ورائه «الإخوان المسلمين» فاتورة الفشل، وتبقى السعودية وحدها تركب حصان التصعيد بلا أفق، لتصدم رأسها بالجدار، وقد تختار جداراً لبنانياً لتصدم رأسها فيه هو المقاومة، ويكون ما نراه من تصعيد لبناني مجرد رأس جبل جليد، وتجد المقاومة ويجد السيد نصرالله، أنّ الانتقال من نصح السعودية إلى توصيفها سينتهي بقتال السعودية كما انتهى الانتقال من نصح الجماعات المتطرفة إلى توصيفها فقتالها؟
– ربما يكون بيد تيار المستقبل فرصة ما قبل خطورة تبلور المشهد الأخير أن يفعل شيئاً، وما سيجري قبل الخامس عشر من الشهر الجاري موعد تسريح العميد شامل روكز أكبر من أن يكون موعداً إدارياً، فهو أكبر من السياسة، إنه موعد مع الخيارات الكبرى.