حلفان جديدان في المنطقة والعالم
ناصر قنديل
– منذ حربَيْ أفغانستان والعراق بدا أنّ واشنطن لم تعد تجد في حلف الأطلسي ما يحقق لها طلباتها العسكرية، كقوة عالمية، فحوّلته إلى حليف أوروبي وراحت تنشئ لكلّ قضية حلفاً تسميه حلف الراغبين، ولا يهمّها تخلف بعض حلفائها الأطلسيين عن مواكبتها هنا أو تخلّف غيرهم هناك. وفي المقابل منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لم يبق شيء اسمه حلف وارسو الذي انتهى بسقوط جدار برلين وزوال منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا، وصارت روسيا المنكفئة خلف حدود الاتحاد الذي يضمّها مع جمهوريات حليفة متضامنة معها تعيد بناء مصادر قوتها تمهيداً للعودة إلى المسرح الدولي كقوة فاعلة.
– في الحرب السورية تقابلت روسيا وأميركا بحلفين سياسيّين فأنشأت واشنطن ما أسمته «أصدقاء سورية»، ونجحت بضمّ مئة دولة إليه، وسعت روسيا لتحويل دول بريكس من جهة والتحالف مع إيران وحلف شنغهاي من جهة مقابلة إلى أشكال من الأحلاف لمواجهة الحرب الأميركية على سورية، ولأنّ ساحة النزال كانت في السياسة هي مجلس الأمن فكان يكفي الفيتو الروسي والصيني لتفوز موسكو بالجولة الأولى.
– تفكك حلف «أصدقاء سورية» الأميركي بسبب صمود سورية، وعملياً بعد سنوات من محاولات مستميتة لإسقاط سورية، كانت ذروتها إرسال الأساطيل لضربة عسكرية وعودتها بلا حرب، رسا التحالف الأميركي على صيغة الحلف للحرب على «داعش» التي تضمّ فرنسا وبريطانيا والسعودية ودول الخليج وأستراليا وكندا ومؤخراً تركيا، وكان معلوماً أنّ هذا الحلف يعمل رسمياً كإطار تكاملي للقدرات العسكرية والخطة السياسية تحت شعار لا لـ«داعش»، لا للرئيس السوري بشار الأسد. وهذا يعني بالمعنى العسكري والسياسي ضرب «داعش» بالحدود التي تسمح ببقائه قوياً لإسقاط الأسد أو إلى حين نضوج وضع يتيح مقايضة سقوط «داعش» والأسد معاً، وكانت الخطة لترجمة ذلك تبييض تنظيم «القاعدة» الرسمي ممثلاً بـ«جبهة النصرة»، كشريك في الحرب على «داعش» وكبديل مقبول دولياً لتسلّم الدفة في سورية.
– بعد سنة من نشوئه صارت معضلة هذا الحلف هي محاولته اليائسة لترجمة جهوده انتصارات على «داعش»، بدا أنها لا تتحقق في العراق رغم التعاون مع الحكومة والجيش في العراق، بسبب موقف أطراف هذا الحلف من الحرب السورية، لأنّ النصر على «داعش» في العراق يُضعف موقع التنظيم في سورية، وهو ما لا يناسب الحلف للحفاظ على «داعش» سيفاً مسلطاً على رقبة سورية ودولتها ومساومتها على قتاله من جهة، وتبرير تحالفاتها مع تنظيم «القاعدة» ومتفرّعاته كبديل محتمل لـ«داعش» وممكن إشراكه في الحلف، خصوصاً «جبهة النصرة» الممثل الرسمي لـ«القاعدة» من جهة ثانية، هذا إضافة إلى أنّ السير بحرب جدية ضدّ «داعش» في العراق يستدعي التحالف مع الحشد الشعبي الذي يناصر الدولة السورية ورئيسها ويقيم تحالفاً متيناً مع إيران.
– الواضح أنّ مأزق الحلف الذي أعلنه جون كيري من الرياض، كان في كيف يترجم صياغته لمعادلة لا نصر بدون حرب برية ومَن يخوضها من جهة، وكيف يكون الحلّ السياسي في سورية، ومَن هو الشريك عن المعارضة الذي يملك وزناً ويمكن أن يكون شريكاً في الحرب على «داعش» من جهة مقابلة؟
– الواضح أنّ تنظيم «القاعدة» كان الشريك الرئيسي لحلف الرياض البديل عن حلف الأطلسي، وأنّ إشكالية العلاقة بـ«القاعدة» لم تنجح في بلورة ما يسمح بتقديم الحليف السرّي علناً كشريك ملائم للحلّ السياسي وللحرب البرية، فلا أمكن تحقيق نجاح في عملية التبييض والتسويق غربياً، ولا تمّ تذليل العقبة أمام التبييض دولياً، خصوصاً لدى روسيا والصين وإيران، و«القاعدة» هي من يهدّد أمن كلّ منهم، ولا يقارن خطرها بخطر المولود الهجين «داعش»، ومن جهة ثالثة لم تتمكّن محاولات الأتراك والقطريين والسعوديين والإسرائيليين من إقناع التنظيم بعملية تبييض ثانية ينفي فيها صلته كـ«جبهة نصرة» بالتنظيم الأم «القاعدة»، لأنّ ذلك يدفعه نحو التفكك ويفقده مصادر قوته.
– في المقابل واضح أيضاً أنّ أطراف الحلف تعيش كلّ منها أزمة بحجم يكفي للانشغال عن هموم الحلف. فالشركاء الغربيون لا يستطيعون المساهمة بغير تكرار ما تفعله أميركا، وهو الغارات التي تبقى بلا جدوى، كما يقول الأميركيون عن غاراتهم وغارات حلفائهم، والحلفاء الإقليميون عاجزون عن فعل شيء في البرّ ومنغمسون كلّ في همومه، خصوصاً تركيا المنشغلة بخطر انتخابي داهم سيسقط من يد الحزب الحاكم فيها قدرة تشكيل حكومة، والسعودية غارقة حتى أذنيها في الهمّ اليمني.
– في مقابل هذا الفشل وهذا الترهّل وتحت العنوان ذاته، الذي اختارته أميركا وجعلته تحدياً دولياً، الحرب على الإرهاب، أقدمت موسكو على تشكيل أول حلف عسكري منذ سقوط حلف وارسو قبل ربع قرن، وهو يضمّ سورية والعراق وإيران مع روسيا ويتسع لاستقطاب المزيد، خصوصاً الصين وبيلاروسيا وفنزويلا كدول مهتمّة بمكافحة الإرهاب جدياً ودعم معادلة دولة سورية قوية وصفة لا بديل عنها في مواجهة الإرهاب، والحليف السري علني وقادر ومصدر فخر لحلفائه وهو حزب الله.
– الحلف الذي تنشئه موسكو يضمّ قوى فتية صاعدة، وتملك عزيمة وقدرة الشراكة في الحرب البرية وتملك مصداقية وجدية ومصلحة السير في الحرب على الإرهاب، وتقدّم روسيا لخصومها وأصدقائها وصفة الحلف الجديد بالأفعال لا بالأقوال.
– حلفان يتقابلان، على مساحة الشرق الأوسط، ولكنهما حلفان دوليان سيكتب لمن ينتصر بينهما حق كتابة ميثاق النظام الإقليمي الجديد، الذي منه وعليه سيتشكل النظام العالمي الجديد. حلفان متقابلان، واحد يفشل والآخر يملك وصفة النصر واسمها سورية، ها هو حلف الشام مقابل حلف الرياض.