«آرتو»… أيها الصديق الصامد
الأمين سمير رفعت
سنوات ونحن نحشر في مُحترفه التصويريّ في ساحة يوسف العظمة، وأصرّ على أنها ساحة يوسف العظمة رغم أنهم استكثروا عليه ساحة في قلب دمشق، وهو الذي يستأهل ساحات دمشق كلّها، أخذوه ورموه في ميسلون حيث استشهد، ونسوا أنه باستشهاده كان في بيت كل سوريّ، وفي حارة كلّ سوريّ وفي مدينة كلّ سوريّ… وفي قلب كلّ سوريّ.
نعود إلى محترفه التصويريّ في ساحة يوسف العظمة حيث كنا نحشر كلّ صباح منذ سنوات… «آرتو» هذا السوريّ الأرمنيّ أو الأرمنيّ السوريّ صاحب المحترف الذي كان وما زال يواظب على الحضور كل صباح في الساعة السادسة، يفتح محترفه، يُشغّل آلاته، يكنس محترفه وأمام دكانه لأنّه يحب النظافة… يُحضّر ركوة القهوة لأربعتنا… سليم العبد قديس شركات التأمين، وما أدراكم ما شركات التأمين، سليم العبد أبو نضال الآتي كلّ يوم من ساحة البطريركية في باب شرقي مشياً إلى ساحة يوسف العظمة لالتزامه باللقاء الصباحي والصحبة الصباحية، ثلّة الصباح في محترف «آرتو» التصويري، إبراهيم حسان أبو نائل الفلسطيني السوريّ أو السوريّ الفلسطينيّ الآتي أيضاً بلفافة التبغ من شركات التأمين بروحه المرحة، وكاتب هذه الكلمات الآتي من التزام حزبي شديد صار له الآن نصف قرن وسنوات خمس، السوريّ جداً.
كانت تجمعنا في محترفه التصويري سوريتنا الرائعة الصافية النقية، فلا «آرتو» الأرمنيّ له علاقة بأرمينيا التي ناضل الأرمن سنين لإعادتها إلى الحياة، ولا سليم العبد الآتي من حمص إلى جار البطريركية ولا ابراهيم حسان الآتي من جنوب الجنوب من فلسطين السورية… كانت تجمعنا سوريتنا المتجذّرة في القلب، وركوة القهوة التي كان يقدّمها «آرتو» إلينا، وانقطع اليوم عن تقديمها بعدما أصبحت كلفة فنجان القهوة تساوي تصوير وتظهير فيلم بكامله.
سليم العبد وابراهيم حسان واظبا على الحضور الصباحي في الساعة السابعة حتى الآن، أما أنا فقد انقطعت سنوات قليلة كنت غادرت فيها مجلس الشعب والتلفزيون السوري، وحين عدت، عدت إلى الجلسة الصباحية في محترفه التصويريّ في الساعة السابعة من كلّ صباح.
لا أروي هذه الواقعة التي لا قيمة لها إلاّ بثرثراتها الصباحية، كلّ يُدلي برأيه في ما سمع بالأمس وقرأ، ونلتقي على تحليل واحد أننا جميعاً سوريّون نحبّ سورية ونفخر بانتمائنا. أروي هذه الواقعة لكي أثبت صمود شعبنا السوري العظيم بعد سنوات ثلاث ونيّف على المؤامرة الكونية… «آرتو» ما زال يترك بيته في كورنيش التجارة كلّ صباح في الساعة السادسة ليفتح محترفه التصويريّ في ساحة يوسف العظمة في قلب دمشق، غير آبه بالقذائف التي تلاحقه من منزله حتى محترفه، يشغّل آلاته، ينتظر زبوناً يريد صورة لجواز السفر، رغم أنه تجاوز الثمانين من عمره، لم يتحسّر على كسَب المدينة الأرمنية التي تعرّضت لهجمة يهود الدونمة بأكثر مما تحسّر على القذيفة التي سقطت في ساحة مدرسة دار السلام أو في ساحة بائعي الخضار في الشعلان، أرمنيته باعها من زمان حين قبض سوريته عن جدّ… وسليم العبد أبو نضال لم يتوان يوماً عن ممارسة مشواره الصباحي من جوار البطريركية في باب شرقي إلى ساحة يوسف العظمة في قلب دمشق ثم إلى شارع أبو رمانة حيث شركة التأمين… وأبو نائل ابراهيم حسان الذي تنقّل بفعل الحوادث الإرهابية من بيت إلى آخر، لم تفارق وجهه تلك الضحكة المستمرة، والمواظبة على عمله في البرامكة… وكاتب هذه الكلمات الذي عاود العمل في مجلس الشعب بلفتة كريمة من رئيسه ليعود إلى دمشق التي عشقها وإلى ساحة يوسف العظمة كلّ صباح…
أسألكم جميعاً: أليس صمود «آرتو» في محترفه التصويري يستقبل كلّ صباح أصدقاءه قبل أن يستقبل زبائنه، أليس هذا الصمود عنواناً لصمود شعبنا السوريّ في وجه المؤامرة خلف جيشنا السوري الرائع وقيادتنا السورية الفذة؟ هذا الصمود الذي أذهل العالم الأعداء والأصدقاء، الأعداء الذين حاولوا بجميع الوسائل كسر هذا الصمود وفشلوا، والأصدقاء الذين بنوا مواقفهم ونظامهم العالمي الجديد على هذا الصمود. «آرتو» أيها الصديق أحيّي فيك صمودك وهو صمود ملايين السوريين الذين آلوا على أنفسهم الوقوف في وجه المؤامرة الكونية وجبهها.
وإلى رفيقة عمري الغالية هدى، أعتذر منك لأنني سمحت لنفسي ومددت يدي إلى ورقة كنت قد كتبتها بتاريخ الثامن عشر من أيار، وكما قلت إنها كانت «في الساعة العاشرة صباحاً من على شرفة منزلي في دمشق»… قلت فيها بالفرنسية التي أجهلها: «كما بالنسبة إلى أجمل امرأة في العالم أعشقها تفوح منها رائحة الموت ويصدر عنها الحزن ويهيمن، إنها دمشق…».
رافقت تلك الكلمات حينها دمعتان، وتمنّعٌ عن الاعتراف كم تؤلمك دمشق الحزينة الباكية وقد أحببتها ضاحكة لاهية جميلة شامخة… لدمعتي عينيك الجميلتين أقول: دمشق عادت مثلما عرفتها، لبست ثوب الفرح غير آبهة لآلة القتل الهمجية لأنها تحب الحياة.
كان نصيب دمشق وحدها أكثر من مئة قذيفة حقد في الثالث من حزيران اليوم الانتخابي… وكان نصيب صناديق العز عشرات الملايين من الأصوات التي صوّتت للوطن من شامه إلى لبنانه إلى أردنه إلى فلسطينه إلى عراقه إلى كويته وحتى إلى نجمته. هؤلاء الملايين كانوا «آرتو» وسليم وابراهيم وسمير… وهدى، كانوا الأمة السورية جمعاء.