تركيا بين الاستقطاب الداخلي والعبث الخارجي…
د. هدى رزق
تشهد تركيا استقطاباً سياسياً واجتماعياً حادّاً يمكنه أن يوصل اللعبة السياسة الى حدود الاحتراب الأهلي بعد أن غذّته عملية سروش وزادت في حدّته العملية الإرهابية في أنقرة التي أودت بحياة ما لا يقلّ عن 100 ضحية ما عدا الجرحى. وفيما ترتفع الأصوات المطالبة بتحقيق جدّي والكشف عن منفذي العملية، تخرج أصوات من داخل حزب العدالة والتنمية تطالب بإفقال وسائل التواصل الاجتماعي تحت حجة خطر التغريد الذي يتداول معلومات حول منفذي العملية، وتعتبر أنّ محاربة الإرهاب تقتضي إقفال مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما «تويتر»، لأنّ الإرهابيين يستعملون هذه الوسيلة من أجل التواصل.
يأتي هذا الاقتراح بعد محاولات كمّ أفواه الصحافة والاعتداء على محللين سياسيّين والتهجّم على مؤسسات إعلامية والقبض على رؤساء تحرير وسوْق مواطنين الى قبة العدالة والتحقيق معهم حول تهم قدح وذمّ بحق الرئيس أردوغان.
تعتبر عملية أنقرة الإرهابية الكبرى منذ السبعينات، إذ أظهرت مواطن الخلل داخل النسيج الاجتماعي جراء السياسات التحريضية الداخلية بهدف كسب مزيد من الأصوات في مواجهة حزب الشعوب الديمقراطي وإلحاق أكبر الخسائر في صفوفه، عملية هدفت إلى قمع العلمانيين بالاعتداء الجسدي والقتل.
في ظلّ هذه الاضطرابات، تأتي دعوة واشنطن لأردوغان للتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي كأمر مستحيل، فالرجل يراه فرعاً لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتله في الداخل ويعتبره إرهابياً، وإنْ أذعن فهو سيخسر صدقيته، فهو منذ إعلانه الوقوف ضدّ «داعش» بدأ عملياً وسياسياً معركته ضدّ حزب العمال الكردستاني عدوه الأول الذي ساهم في إسقاطه في انتخابات 7 حزيران. كان لا بدّ بالنسبة إليه من كسر شوكة الأكراد وضربهم وإحكام السيطرة على مناطقهم وإغراقها بالفوضى، لكي يعلموا أنّ «العدالة والتنمية»، وحده من يمكنه منع الحرب عنهم في ظلّ التطرف الذي تقوده الحركة القومية التركية. لذلك اعتقد أردوغان أنّ الحرب الداخلية ستعزّز استعدادات حزبه لقطف ثمار التحريض والحرب المفتعلة من أجل استعادة حكمه المطلق والحصول على 45 في المئة من الأصوات لتأليف حكومة اللون الواحد.
ورغم إعلان «داعش» المشتبة به الأول في تفجير أنقرة لا تزال الدوائر المقرّبة من حزب العدالة والتنمية تتهم حزب العمال الكردستاني بالعملية، وتعتبر أنّ تعاوناً ما حصل بينه وبين «داعش». تعكس هذه الفرضية ارتباك أنقرة وتعتقد دوائرها السياسية أنّ الإيحاء للمواطن التركي بأنّ بلاده تتعرّض لمؤامرة خارجية يحيكها الأعداء الذين اجتمعوا ضدّها، فرضية يمكن تصديقها مع أنها تذكر الأتراك بالأيام الغابرة، حين كان القادة السياسيون يلجأون الى هذه الحجة من أجل تبرير تقصيرهم. لم تتمّ معاقبة أحد بعد عملية سروش، بل جرى فتح الحرب مع العمال الكردستاني، ولم يتوسّع التحقيق بل جرى طمسه واستعيض عنه بالتحريض، وكأنما كانت العملية إعلان حرب. ولا يجد وزير الداخلية اليوم بعد تفجير أنقرة حرجاً من البقاء في منصبه رغم دعوات طالبته بتحمّل مسؤولية التقصير، بل إنّ رئيس الجمهورية سانده في ذلك، وعوضاً عن ذلك جرى اللجوء الى إيقاف رئيس شرطة أنقرة ومساعديه عن العمل من أجل تخفيف الضغط عن الحكومة. أما المخرج الوحيد فكان اتهام الخارج بالتورّط في هذا الانفجار من دون أية أدلة تثبت ذلك.
تساؤلات طرحت حول دور الدولة ووزارة الداخلية والتقصير المتعمّد والاهتمام فقط بأمن مراكز العدالة والتنمية تحضيراً للعملية الانتخابية، كذلك غياب الاستخبارات التركية عن الحدث بعد نشر الصحف أخباراً مسرّبة حول علمها بوجود استعدادات وتهديدات بعمليات إرهابية، لكنها لم تؤخذ على محمل الجدّ، مع انه تمّ الكشف عن خلايا نائمة متصلة بـ»داعش»، ولذلك تدور شبهات حول تورّط متطرفين يمينين وإسلاميين يدورون في فلك الدولة كون معظم ضحايا عملية سروش كانوا من الأكراد واليساريين، كذلك ضحايا تفجير أنقرة الذين ينتمون الى اليسار والنقابات العمالية والطبية والمهندسين وجلهم من العلمانيين والأكراد والعلويين الذين تعبترهم الدولة واليمين المحافط أعداء لها. كما اتضح أنّ الاستعدادات الأمنية اللازمة لحماية تظاهرة بهذه الضخامة لم تتوافر رغم تقديم طلب التظاهر الى الدوائر المعنية قبل التظاهرة بأسبوعين.
ضمن هذا الإطار أتى اتصال أوباما بأردوغان للتعزية بضحايا الإرهاب والتشديد على قتال «داعش» متوافقاً مع رغبة أردوغان في تعزير المعارضة المعتدلة، كذلك أتت زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى تركيا لتعزيز الوجهة التركية السعودية التي لا ترى حلاً في سورية بوجود الرئيس بشار الأسد. وأكدت أنّ هناك توافقاً سعودياً ـ تركياً من أجل تدعيم موقف المجموعات المسلحة في سورية، في وقت يتمّ العمل على تزويدها بأسلحة نوعية تحت سمع وبصر الأميركيين.
تتحوّل اللعبة السياسية الى مسألة خطرة على الحدود التركية بوجود التدخل الجوي الروسي، حيث تسعى السعودية الى شراء أسلحة يُعتقد بأنها تتخطى الخطوط الحمراء المرسومة بين الروس والأميركيين تشحنها تركيا الى المعارضة ويمكنها في هذه الحال الوصول الى يد «داعش» طالما لا تحديد لهوية «المعارضة المعتدلة».
تدفع تركيا بشكل واضح الى حرب سيكون ثمنها استقرارها الداخلي. كذلك تخشى الدوائر السياسية التركية من احتكاك عسكري تركي كردي يمكنه تهديد الانتخابات وزيادة التوتر الداخلي، تعززه رغبة أردوغان في الهروب الى الأمام بعد تراجع شعبيته الانتخابية.