الزبداني الآرامية… عروس المصايف السورية وكنوز التاريخ
لورا محمود
دمشق، مدينة الياسمين والعشق وقاسيون، كانت وما زالت مزدحمة بالأماكن الجميلة، قديمة كانت أو حديثة، في السهل أو في الجبل. فلدمشق خصوصية روحية وإنسانية، إضافة إلى خصوصيتها التاريخية، فلا مكان في دمشق إلا ويعبق بروح التاريخ.
الزبداني، مدينة مزدهرة تتبع المدينة لمحافظة ريف دمشق، وتقع على مسافة 45 كيلومتراً شمال غرب العاصمة. تمتد هذه المدينة على سفوح جبال لبنان الشرقية من ناحية الشرق وتشرف على سهل رائع هو سهل الزبداني.
تُعد الزبداني من أقدم المصايف العربية وأشهرها، فهي معروفة منذ القرن التاسع عشر، إذ يقصدها السيّاح من كل مكان لجمال طبيعتها وهوائها العليل، فجوّها معتدل في أشهر الصيف، وفي الشتاء تتساقط الثلوج لتُغطي السفوح والمنازل بشكل جميل.
ترتبط الزبداني بخط سكة حديدية مع مدينة دمشق، يُسمى «قطار الزبداني» أو «قطار المصايف». وتقع على يمين الطريق الدولية التي تربط دمشق ببيروت، في وسط المسافة بين دمشق وبعلبك، في وحدة جبلية في سلسلة الجبال السورية، حيث ترتفع عن سطح البحر ما بين 1.150 و1.250 متراً. يحدّها جبلان هما: جبل سنير من الغرب، وجبل الشقيف من الشرق، ويتوسّطها بساط أخضر يشكل سهل الزبداني.
تحيط بالمدينة مجموعة من البلدات والقرى، وهي: بلودان، بقين، مضايا، وسرغايا. وينبع من جنوبها نهر بردى. كما تكثر الينابيع فيها مثل «نبع العرق»، و«الكبري»، و«الجرجانية».
سُمّيت المدين بـ«زِبْداني»، بكسر الزاي وسكون الباء، وتُلفظ أيضاً بفتح كليهما، وهذا اللفظ هو الأصح، لأن الاسم منقول عن أصله الآرامي. أما الياء الأخيرة في الكلمة، فلقد وردت مخفّفة لا مشدَّدة. أصل الكلمة الآرامي السرياني كان على صيغة الجمع «زابادوناي»، ثم نقلت إلى اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد بِاسم «زابادوني»، والأصل في اللغة الآرامية والسريانية ثم العربية واحد، والمفرد منها «زبد»، ومعناه اللب أو لبّ الخير وخلاصته، فدخلت إلى اللغة العربية باللفظ والمعنى نفسيهما.
ولأن هذه الكلمة مقدسة عند الآراميين، فلقد أوجدوا لها إلهاً، وصنعوا له تمثالاً عبدوه وبنوا له المعابد والهياكل وجعلوه ابن الشمس الإله الأكبر ، ويُسمّى عندهم «إيل»، فسمّوه «زبدئيل»، وسُمّي بهذا الاسم ملوك كثر من الأنباط إلى تدمر. وما تزال بقايا هذا الاسم في عدد من المناطق العربية، فهناك «زيدل» في لبنان غرب شتورا ، و«زبدان» في الجزيرة السورية عند نهر الخابور، و«ربلان» في اليمن.
تاريخ الزبداني موغل في القدم، ويترافق مع تاريخ مدينة دمشق. فقد استوطن الإنسان هذه المنطقة لكثرة خيراتها ووفرة مياهها، ويُعتقَد أن سكانها القدامى يعودون في أصولهم إلى سكان دمشق وبعلبك والأماكن المجاورة لهما مثل الأبلية أي سوق وادي بردى في جبال دمشق، وكلشيش أو عنجر وما جاورهما. لقد كانت هذه المدينة ذات أهمية كبيرة كطريق تجارية لقوافل بين المدينتين التاريخيتين دمشق وبعلبك . وكطريق عسكرية للفتوحات والحروب.
يعود أصل سكان هذه المدينة إلى الآراميين الذين كانوا أول من سكن هذه البلاد، وهم الذين أسسوا مدينة دمشق منذ آلاف السنين وسمّوها بِاسم جدهم سام أو شام ، وفي ذلك الوقت بُنيت مدن شتّى مثل الزبداني، السفيرة، حلبون، إيبليا أو سوق وادي بردى ، منين، وصيدنايا.
كانت تقوم في منطقة الزبداني قرى عدّة مثل «كفر نفاخ» و«كفر عامر». ويقال أنهما كانتا من البلدات الصناعية ذات المستوى الاقتصادي الجيد، إذ كان أهالي القريتين يعملون في صناعة الحرير الطبيعي، وفي مزارع الكروم والعنب والمعاصر. أما قرية «النبي عبدان»، التي تقع شمال البلدة أيضاً، فيقال أنّ فيها مقاماً لرجلين صالحين دُفنا هناك، وكان يزوره أهالي المدينة. وفي ظاهر البلدة القديمة باتجاه الجنوب وعلى الطريق المؤدية إلى دمشق، تقوم مساحة من الأرض أربعة دونمات فيها نبع ماء رقراق، وتسمّى «خان الفندق»، وفيها بقايا أثرية، وحمّام كبير تأتيه المياه من نبع «الجرجانية»، ويقال أنّ هذا الخان كان عبارة عن سوق تُعرَض فيه البضائع المختلفة القادمة من دمشق ومن وغيرها.
والجدير ذكره، أن مجموعة كبيرة من الأديرة للرهبان والنسّاك كانت تقوم في منطقة الزبداني، على مساحات صغيرة من الأرض، وكان يستثمرها الرهبان لمعيشتهم وحياتهم. ومن هذه الأديرة «دير الأخرس» و«دير سلامة».
كانت مدينة الزبداني الآرامية القديمة مدفونة تحت المدينة الحالية، وثمة مجموعة من آثارها موجودة في أماكن متفرّقة من الزبداني أبرزها: قلعة الكوكو، وهي اسم يونانيّ ومعناه «الحبوب»، حيث يوجد في هذا المكان معبد يوناني لإله الحبوب، وفيه كثير من بقايا الأعمدة المكسورة والقواعد الحجرية، وحجارة ضخمة مبعثرة عليها كتابات يونانية. وفيه كذلك بقايا لمعصرة زيت ومعصرة عنب منحوتتين في الصخور، وبقايا مغارات في كل منها ستة قبور قديمة. وينتهي المعبد المنحوت في الصخر بشقّ واسع فيه موضع للأصنام، وعلى سقفه كتابات يونانية وأمامه بقايا أعمدة على أحدها كلمة ممسوحة باليونانية هي «كوكوس»، وكلمة ثانية هي «سولالاس»، وهي اسم لراعي غنم يوناني ورد في الميثولوجيا القديمة كان مغرماً بإلهة الشعر اليونانية الجميلة «زاراهو». وعلى عمود آخر كتابة يونانية هي «Zabadony -Teos Todros»، ومعناها الإله «زاباد هبة الشمس».
كان هناك دير القديس يوحنا المعمدان، وهو في الأصل دير مسيحيّ مع كنيسة كبيرة تحوّل إلى مسجد في ما بعد. وكان يقع في وسط البلدة، مكان الجامع الكبير «جامع الجسر»، وما تزال منه بقايا حجارة ضخمة وزخارف ورموز كنيسة مسيحية قديمة، منها إشارة الصليب المقدّس ومنحوتة على شكل القربان المقدّس.
في موقع دير النحاس بقايا معبد آراميّ من أعمدة وغيرها، كان يُسمّى في ما مضى معبد الإله «زابادوني»، وهو اسم المدينة.
تعدّ الزبداني مدخلاً للسلاح والمسلحين من لبنان إلى مناطق القلمون. ولها أهمية تكمن في قربها من لبنان، إذ لا تبعد سوى أحد عشر كيلومتراً عن الحدود اللبنانية ـ السورية، وأيضاً قربها من العاصمة السورية دمشق، إذ تبعد عنها خمسة وأربعين كيلومتراً فقط. كما أن المدينة تقع في الوسط بين دمشق وحمص ومنطقة الساحل في الشمال، وهي تشكل واحدة من المدن السورية الكبرى التي كانت تسيطر عليها المجموعات التكفيرية. وأهمية الحسم في الزبداني تكمن أولاً في تأمين الحدود اللبنانية بالكامل، فالعملية هي استكمالٌ للعمليات الجارية في جرود القلمون لتطهير الشريط اللبناني ـ السوري من المجموعات المسلحة، وإقفال معابر الإمداد والتهريب مع لبنان، إضافة إلى تأمين ريف دمشق الغربي، ثمّ تأمين دمشق.
السيطرة على المدينة تلغي أيضاً أيّ مخاطر مستقبلية للمجموعات الإرهابية على خط بيروت ـ دمشق، وتسمح للجيش السوري بالقيام بعمليات عسكرية مريحة في مناطق وجود المجموعات التكفيرية في ريف دمشق، لإبعادها أو محاصرتها أو الحدّ من إمكانية تحرّكها.