ورحلت نوّارة الدراما السورية… رندة مرعشلي وداعاً
دمشق ـ آمنة ملحم
يوم قرّرتُ زيارتها في المستشفى الإيطالي في دمشق، وإضاءة الشموع أملاً بشفائها، وما إن دخلت غرفة علاجها، مدّت يدها مرحّبة بي. طلبت منّي الاقتراب على رغم أنها المرة الأولى التي تراني فيها وجهاً لوجه. طبعت قبلتين على وجهي، شاكرة حضوري لزيارتها، هامسة في أذني بضعة كلمات لن أنساها: «شكراً لكم… أنا أكبر بكم، وبمحبتكم سأرجع… يا رب».
رندة مرعشلي، صاحبة «أطيب قلب»، أصرت على إبقاء البسمة على وجهها محفورة في ذاكرتنا حتى وهي على فراش المرض. ورحلت إلى عالم ربما ستبقى فيه مبتسمة على الدوام.
رندة التي لم يستطع فراش المرض انتزاع بسمة قلبها، غيّبها الموت عن الحياة مساء أوّل من أمس الأربعاء، قبل أن تدخل العقد الرابع من العمر. وشُيّعت صباح أمس الخميس إلى مثواها الأخير في وادي العيون في ريف حماة. فودّع جثمانها الشام وأهلها الذين لطالما عشقتهم. مرّ موكب التشييع في ساحة الأمويين، وأماما مبنى الإذاعة والتلفزيون، ملقياً التحية على دار الأوبرا، قبل أن يتجه نحو جبل قاسيون.
رحلت نوّارة الدراما السورية بعد رحلة علاج بدأت منذ حوالى ثلاث سنوات ونصف السنة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. حينذاك، بقي الأمر طيّ الكتمان عن الإعلام، إلّا أن انتقال السرطان من الثدي إلى الكبد، وتعطيله عن أداء وظائفه، حال دون تقدّم وضعها الصحي أو استقراره مؤخراً، ليخطفها الموت من أحضان عائلتها، ويسرق من الحياة عفوية فنانة قلّ نظيرها، ودلعاً لا مصطنعاً، ورقّة فطرية، وأنوثةً حقيقيةً. لتتعدّد التسميات التي أطلقها عليها محبّوها، فمنهم من يلقبها بـ«سندريلا الدراما السورية»، وآخرين يدعونها «بسمة الدراما»، أما نحن فسنبقى نسمّيها «نوّارة الدراما السورية».
بكلمات غصّ بها قلبه ولسانه، نعى شريك حياة رندة، مصفف الشعر نورس عبود، أمّ طفليه سيلينا وجود، إذ كتب على صفحته الشخصية على «فايسبوك»: «انتهت الكلمات… وثقل الهواء… وتغيّر لون الشجر واتّشحت السماء بألوان الحزن. بعد اليوم، لا معنى حتى للنظر… وداعاً رندة مرعشلي… وداعاً حبيبتي ودنياي».
ووجّه مسؤول رندة الإعلامي محمد تنبوك رسالته الأخيرة إلى روحها عبر صحيفة «البناء» فقال: «انتهى الكلام عندك، وتوقّف الزمان، وضاعت الحروف يا صاحبة أطيب قلب وأجمل ضحكة، يا حبيبة قلبي يا أختي وصديقتي رندة مرعشلي، رحمك الله. نحن لنا الأرض وأنت لك السماء… وضحكتك في قلوبنا خالدة لا تموت».
وبعد دقائق قليلة من إعلان خبر وفاتها، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بذكر جميل لرندة. وغصّت صفحات أهل الوسط الفنّي بكلمات منسوجة بغصّة ممزوجة بالحزن والأسى على رحيلها المبكر.
والدة النجمة سلاف فواخرجي ابتسام أديب كتبت: «لا كلمات. رحلت رندة وتركت لنا ابتسامتها، وتركت لنورس أجمل الأطفال. هل تذكرونها بأعمالها الفنية الأولى؟ حيّ المزار، وهي تعاني من مرض العضال. ها هي ترحل من قسوة الفنّ وعذاباته التي أحبتها حتى النخاع. وداعاً رندة والصبر لكلّ من أحبك وهم كثر».
واستعاد الفنان قاسم ملحو وجع فقدان المبدع نضال سيجري مع وجع رحيل رندة فكتب: «الكأس المسرطن الذي شرب منه نضال سيجري منذ سنتين، شربت منه اليوم رندة. يا كأس الموت إنك تستقصد الغالين في حياتنا. رندة أعتذر عن كل الوقت الذي جمعنا ولم أدلّلك.. الرحمة لروحك».
كما تداول كثيرون صورتها المكللة بابتسامتها وهي على سرير المرض في الأيام الأخيرة من عمرها، مرتدية ثوباً أبيض كقلبها. وخاطبتها الكاتبة نور شيشكلي: «رندة يا عروس السماء. مع السلامة يا حبيبتي. أنت الآن في مكان أفضل. يا عروس السماء رحمك الله يا صاحبة أطيب قلب».
وكتبت لها روعة ياسين: «لن أنساك ولن أنسى صوتك الذي سيبقى يرنّ في قلبي. مع السلامة يا حبيبتي».
واسترجع الإعلامي أمجد طعمة صورة تجمعه برندة في مسلسل «حمام القيشاني» وكتب: «في مكان ما من هذا الكون، ترسم ضحكتها على حزننا الذي لا يفهم أنها في مكان أفضل من هذه الحياة. يا رندة لك الرحمة والفرح حيث أنت».
ونادتها الفنانة ديمة بيّاعة مودّعة: «أبكرتِ الرحيل يا رندة، كنتِ كالنسمة التي تبلسم الجرح، وجرحنا اليوم على فراقك كبير… رحمك الله».
وبحرقة، كتب المنتج محمد أمين: «رحلت وارتحت يا رندة، رحمك الله، حرقتِ قلوبنا لأنّ لا أحد استطاع أن أن يفيدك بشيء في أيامك الأخيرة».
بهذه العبارات، وبكلمات كثيرة، نعى الممثلون والمحبّون رندة، ورثوها معتبرين رحيلها المبكر موجعاً كوجع الحرب التي تعصف ببلادهم.
شارك في التشييع ذوو الراحلة وعدد من الفنانين. وقالت علا شقيقة الراحلة: «أختي الكبرى رندة حنون وطيبة، أحبت الحياة والفنّ حتى اللحظة الأخيرة في حياتها، وعندما علمت بمرضها كانت قوية ولم تستسلم حتى اللحظات الأخيرة في حياتها، كما كانت مخلصة لبيتها وأهلها وفنّها، وتملك محبة كلّ من عرفها».
أما زوجها نورس عبّود فقال: «كانت صديقة لي ولأولادها، محبة ومعطاء، ظلّت متماسكة حتى النفَس الأخير، وعندما تتألم تقول يا رب امنحني القوة واشفني وكانت مخلصة لفنها وعائلتها».
الفنانة ريم عبد العزيز قالت: «رحلت رندة باكراً، وكانت إنسانة طيبة. أدوارها كامرأة طيبة تعكس حقيقتها، وعملت بصدق وحبّ للحياة التي عاشتها بفرح وابتسامة. رحيلها خسارة للفن السوري كما رحيل أيّ فنان. كانت رندة تتمنى الحصول على عضوية نقابة الفنانين وتحقق ذلك منذ فترة قريبة، إذ منحتها النقابة عضوية الشرف، وعندما أبلغتها الخبر قالت لي: هذه أجمل هدية أتلقاها في حياتي».
الفنانة سحر فوزي عبّرت عن حزنها لرحيل مرعشلي قائلة: «رحيل الفنانة رندة أمر مؤسف زاد وجعنا الذي نعيشه هذه الأيام، لأنها رحلت باكراً. وخلال إقامتها الأخيرة في المستشفى لازمتُها فلمست قوتها وحرصها أن تكون مبتسمة دائماً في وجه كل من يزورها». مشيرة إلى مشاركتها معها في عدة أعمال منها «ورود في تربة مالحة» و«عش المجانين.»
أما الفنانة تولاي هارون فقالت عن الراحلة: «كانت قوية في مرضها وترفض أن يواسيها أحد. وتقول لمن حولها انتظروني سأعود إلى الفنّ. لكن الموت كان أقوى من ذلك».
الفنانة الشابة مي مرهج قالت: «كانت الراحلة أختاً وأمّاً لنا تهتم بالفنانين الجدد والكومبارس وتقدم العون لهم. ولها بصمة خاصة تميّزها. واشتركتُ معها بعدة أعمال للأطفال في بداية مشواري الفني بعد تخرّجي من معهد الفنون المسرحية».
الفنانة أمية ملص تحدّثت عن الراحلة فقالت: «رندة فنانة مميزة لها شكل جميل على الشاشة وبصمة خاصة وصاحبة لون مميز في الدراما السورية. ورحيلها سيشكل فراغاً كبيراً».
الفنانة سلاف فواخرجي وصفتها بصاحبة الضحكة والابتسامة الخاصة وقالت: «عملت رندة في الفن بصدق، مظهرة خصوصية في العمل. وشاركت معها في مسلسلَي ورود في تربة مالحة وبكرا أحلى، وعرفتها كفنانة مميزة وصديقة غالية».
بدورها، أشارت الفنانة غادة بشور إلى الروح المرحة التي اتّسمت بها الراحلة فضلاً عن إنسانيتها وحبّها للآخرين وتواضعها. معتبرة أن خسارتها كإنسانة لا تقل أبداً عن خسارتها كفنانة ونجمة.
وعن علاقتها بالراحلة قالت الفنانة صفاء رقماني: «عملت معها للمرة الأولى في مسلسل ثلوج الصيف عام 2000، فوجدتها نجمة في كل شيء. محبة معطاء تحمل الأمل في قلبها دائماً. وعبر علاقتي معها التي استمرت طوال تلك الفترة، عُزّزت نظرتي إليها كزميلة وكأخت حقيقية».
وقال الفنان وائل زيدان: «رحيل رندة خسارة للفن وللفنانين في سورية لأنها كانت إنسانة شفافة وصديقة للجميع. ولمست طيبتها خلال عدّة مسلسلات شاركنا فيها معاً، فضلاً عن خصوصيتها وجمالها الذي كان يطلّ على أيّ مكان توجد فيه».
بدأت رندة رحلتها الفنية عبر بوابة الدوبلاج لأفلام الرسوم المتحركة للأطفال. تزوّجت بعمر مبكر من الممثل طارق مرعشلي، ولها منه ابنة «هيا» التي سارت على درب والديها واختارت الفن أيضاً كعالم لها.
ولكن زواج رندة وطارق لم تُكتَب له الديمومة. وكانت انطلاقتها على الشاشة على يديّ المخرج علاء الدين كوكش الذي قدّمها للمرة الأولى في مسلسله «حي المزار»، الذي عُرض أواخر تسعينات القرن الماضي، ولاقى نجاحاً كبيراً حينذاك. وتلته مشاركات عدّة في أعمال تلفزيونية وسينمائية، يصل عددها إلى الأربعين.
أبرز هذه الأعمال: «حمّام القيشاني»، «ورود في تربة مالحة»، «كان ياما كان»، «ظرفاء ولكن»، «بكرا أحلى»، «الدبور»، «ما ملكت أيمانكم»، «رايات الحق»، «كسر الأقنعة». كما سجّلت ظهورها السينمائيّ الأخير، مع المخرج غسان شميط في فيلم «الشراع والعاصفة» المأخوذ عن رواية السوري حنّا مينا.
أما آخر ما عُرض لها في الدراما، فكان مسلسل «دامسكو» لسامي الجنادي في رمضان 2015، وظهرت فيه بإطلالة جريئة وقوية. ولكن قدرها شاء ألا يكون المسلسل هذا محطتها الأخيرة، بل تركت ذكرى لتجربة كانت الأولى لها في أيام عمرها الأخيرة، في التقديم عبر برنامج للكاميرا الخفية، صوّرته ليعرض لاحقاً. كما ان عبير حضورها لن يغيب عن موسم عرض 2016، إذ تركت بصمتها عبر إحدى ثلاثيات «مدرسة الحبّ» الذي ما زال يصوّره المخرج صفوان نعمو.
التكريم الأخير الذي حصدته مرعشلي كان من نقابة الفنانين السورية، التي منحتها عضوية شرف مؤخراً تقديراً لفنها الجميل، الذي سيبقى محفوراً في أذهان الجميع.
هكذا، وبطيب الذكر، رحلت نوارة الدراما السورية رندة مرعشلي، ربما لأن عمر الفراشات قصير. ولأنها هي الأقدار لا تبقي عزيزاً، وساعات السرور قليلة.
رندة مرعشلي لروحك السلام ولأهلك الصبر.