بوتين والأسد… وروزفلت وستالين
جلس المنتصرون في نهاية الحرب العالمية الثانية لترسيم خرائط النظام العالمي الجديد، وكانت قمة يالطا التي جمعت ونستون تشرشل وجوزف ستالين وفرانكلين روزفلت عام 1945.
يظنّ بعض الباحثين أن الدولة العظمى تصنعها ما يسميه العسكريون بالقوة الصافية للجيوش، وهي جانب لا يستهان به في دراسة مصادر القوة وصناعة المكانة للدول، لكنه غير كاف، بدليل حال دولة كالهند مثلاً، بعدد سكانها وتاريخها ومواردها وتفوّق شبابها في التقينات العصرية ونسبة البحوث العلمية في جامعاتها وتميّز الفنون والثقافة والمطبخ فيها، وامتلاكها قدرة نووية عسكرية، إذا ما جرت مقارنتها بفرنسا، ومثلها يمكن القياس بين اليابان وفرنسا أيضاً أو ألمانيا وفرنسا بمقاييس أخرى ومختلفة، لنصل إلى القول إن المكانة العظمى للدول التي تدخل مصادر القوة بتنوّعها في صناعتها وتلعب دوراً حاسماً فيها، ليست القوة فيها كل شيء، فإلى جانبها ثمة عناصر غير ملحوظة في مصادر القوة لا بدّ من توفرها لتتحقق هذه المكانة، التي تحققت لدول مثل روسيا والصين وأميركا وفرنسا وبريطانيا، وتستمر بمكانة متميزة تحمل حق النقض في مجلس الأمن الذي يشكل الغطاء القانوني أو الاعتباري لمفهوم إدارة العالم أو حفظ الأمن والسلم الدوليين كما يقول ميثاق الأمم المتحدة.
بالعودة إلى التاريخ الحديث الذي يبدأ مع تشكل عصبة المم، أي مأسسة العلاقات الدولية، وما قبله حيث العظمة كانت بالحضور الإمبراطوري للدول وصعودها وأفولها وفقاً لتوصيف ابن خلدون، سنكتشف عاملاً خطيراً يلعب الدور الحاسم في صناعة مكانة الدولة العظمى، يتعلق بلحظة تاريخية تمتلك فيها هذه الدولة قيمة مضافة تتصل بالبشرية كلها، فتخوض حرب خلاص البشرية وتعيش على أمجاد هذا الإنجاز حتى تتحقق عناصر أفولها وتكتمل ليأتي دور سواها من الأمم والدول الصاعدة. فالعظمة التي مثلتها فرنسا نشأت من ثورتها التي ألهمت الثورة الأميركية، وكانت أساس الديمقراطية التي نعرفها، مدعومة بمصادر القوة التي تختزنها فرنسا طبعاً، لتمنح هذه القمية المضافة حاملاً قادراً على حمايتها ونشرها. وبريطانيا كانت قيمتها المضافة الإصلاح الكنسيّ الذي أنهى عهد صكوك الغفران ونشر الكنيسة الإنجيلية كحامل ديني لفكرة الدولة المدنية في وجه الدولة الدينية، بالمناسبة، لا في وجه الدولة العسكرية. وجاءت أميركا خلاصة هذين العاملين، من موروث فرنسا وبريطانيا، الديمقراطية والدولة المدنية، وبالمقابل عظمة روسيا جاءت من ثورتها البلشفية التي بنت أوّل نظام اشتراكي وحوّلته قوة نهضة في الإنسانية في وجه الظلم الرأسمالي. ومن خلف هذه القيمة المضافة مصادر قوة بالتأكيد. وجاءت الصين كحامل لثورات التحرر الوطني وحامل قمية مضافة هي الحرب الشعبية في وجه الاستعمار مدعوماً أيضاً بمصادر القوة، لكن هذه الدول الخمس، بقيمها المضافة الحيّة حتى تاريخنا، تكرّست وتوّجت في لحظة تاريخية واحدة، باستثناء الصين التي أضيفت إليها لاحقاً بقوة إنجاز ثورات التحرر التي صنعت لحظتها التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدما شكّل الاستعمار تحدّياً لا يقل عن النازية خطراً وظلماً، وكانت ثورة الصين هي طليعتها. أما بالنسبة إلى الآخرين، فقد كانت الحرب العالمية الثانية هي اللحظة التاريخية التي منحت القيمة المضافة لكل منهم، بمعناها الجديد المضاف إلى ما لديهم من قيمة مضافة مختزنة. واللحظة الجديدة هي النصر على النازية التي شكلت خطراً داهماً على البشرية وسلام شعوبها وأمنهم.
بعيداً عن مناقشة تفاصيل القمة التي جمعت بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد، يبقى مؤكداً أن البشرية تدخل تحدّياً يتهدّد سلامها وأمنها وطمأنينة شعوبها، يشبه الخطر الذي مثلته النازية، يمثله الإرهاب الذي درك الجميع حكاماً وشعوباً، أنه حالة سرطانية تتكاثر عجائبياً ولا يمكن السيطرة عليها من دون الاستئصال والاجتثاث. ويبقى مؤكداً أيضاً أنّ البشرية بنظامها القديم المولود من الحرب العالمية الثانية قد فشلت في إدارة السلم والأمن الدوليين، وأن محاولات استبداله على خلفية انهيار افتحاد السوفياتي بإقامة نظام جديد يقوم على الإدارة الأحادية، قد أفلست مع فشل الحروب الأميركية وفشل التعاون مع الأدوات الإقليمية الحكومية وغير الحكومية كتركيا و«إسرائيل» والسعودية وقطر والأخوان المسلمين، ووصولاً إلى «تنظيم» القاعدة نفسه واللعب على وتر إرهاب جيد وإرهاب سيّئ. والحصيلة كانت تجذّر الإرهاب من جهة، والفشل بالسيطرة من جهة أخرى. فبدأ زمن التسويات الموضعية، من الحلّ السياسي للسلاح الكيماوي السوري إلى التفاهم على الملف النووي الإيراني، وبوادر الحلول في اليمن وأوكرانيا وليبيا وسواها.
تتقدّم الحرب على الإرهاب كقيمة مضافة ينكفئ الأميركيون عن القدرة على الفوز بها، فتصير الحامل التاريخي ليتبوّأ مَن ينتصر فيها مكانة الدولة العظمى. وتتقدم روسيا وسورية، بقيادة الرئيسين بوتين والأسد، لتملك كلّ منهما سبباً كافياً من أسباب صناعة النصر، الصدق والعزم والمصلحة والوضوح والفرادة وفوقها القدرة، تتقاسمانها، روسيا من الجو وسورية في البر، وتبدو سورية الدولة الوحيدة في العالم التي تملك جيشاً استثنائياً قادراً على إنجاز المهمة وتحمل كلفتها من تضحيات.
ـ قمة بوتين والأسد تشبه لقاءً كان يفترض حدوثه قبل يالطا بين روزفلت وستالين لوضع اللمسات النهائية على دخول برلين..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.