المستنقع الديمقراطيّ
جمال العفلق
على امتداد السنوات الأربع الأخيرة، لا يمكن أحداً أن يحصي عدد المرات التي ذكرت فيها كلمة «ديمقراطية» على لسان الذين أطلقوا وتبنوا «الربيع العربي»، هذا «الربيع» الذي لوّن شوارع المدن العربية بالأحمر وشيّب شعر الشباب وغيّر مفاهيم كثيرة، حتى أنه وصل إلى مفهوم الدين وعلاقة الإنسان برب البريّة.
باسم «الديمقراطية» دمّرت ليبيا، وباسم «الحراك الديمقراطي» أحرقت الكنائس والمساجد على حدّ سواء في سورية، وباسم «الديمقراطية» تمّت التسوية في اليمن، وباسم «الديمقراطية» اجتاحت شرطة رجب طيب أردوغان ساحة تقسيم، وباسم «الديمقراطية» لا يجوز ذكر تدمير دوار اللؤلؤة في البحرين.
لا يمكن حصر الجرائم التي تمّت تحت راية «الديمقراطية» و«الحرية» المختصرة بعبارة «مطالب محقة» و«سلمية الحراك».
زاد الأمر تعقيداً أن هذه «الديمقراطية الحديثة»، وهذه السلمية المُفرطة في تطبيقها كانت تحت نظر العالم الحر مع التحفظ عن العبارة الأخيرة ، وأن مموّليها وداعميها أو من أراد لهم «العالم الحر» أن يكونوا في الواجهة هم قطر والسعودية الداعمتان مالياً وإعلامياً وسياسياً لهذه الجماعات، خاصة في سورية والعراق. وما المؤتمرات التي عقدت تحت اسم «أصدقاء سورية» والتي وصل عدد المشاركين فيها في البداية الى أكثر من مئة دولة، لينخفض بطريقة غريبة الى إحدى عشرة دولة رئيسية، سوى لتوزيع الأدوار بينها بين دول محركة ودول منفذة للمشروع. والهدف تعميم «الديمقراطية» بالعنف! والغريب أن هذه الدول المحركة التي تنسب اليها «العراقة الديمقراطية» كانت تستمع إلى خطب الدول المنفذة الأداة والعالم كله يعلم أن هذه الدول ليس لديها دستور ولا برلمان ولا أبسط أدوات العمل الديمقراطي.
فالمستنقع الديمقراطي والعالم الحر لا يخفيان الاحترام لدور الأدوات وقبول تصريحاتها، إما لتخبّط وإرباك في الأداء واعتقاد راسخ لديهم أن شعوب المنطقة تقاد بسهولة! أو لتقاسم الأدوار والظهور بوجه الحَمل الوديع المحب للإنسانية. فـ«داعش» في سورية هي مرة من صنع النظام ومرة أخرى «بنادق شريفة تحارب النصيرية»!، ولكنّها اليوم في العراق هي «حراك شعبي» حصل نتيجة الإقصاء والمذهبية، وستكون خطراً على المنطقة كلها، لكن من دون أي إدانة لأفعالها الدموية.
مع اشتداد الأزمة في العراق ظهرت إنسانية «الديمقراطي» رجب طيب أردوغان فانتقد فكرة قيام الولايات المتحدة الأميركية بشن هجمات جوية على مناطق تواجد «داعش»، لأن هذا العمل سيؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، ونسي أن هناك أكثر من نصف مليون متشرّد من المدنيين ومئات القتلى على يد هذا التنظيم، ونسي العالم الحرّ أن «داعش» هي نفسها التي وثّق السوريون جرائمها اليومية، وما جريمة قطع المياه والكهرباء عن أهل مدينة حلب إلا واحدة من تلك الجرائم.
يستمر «العالم الحر» في دفع المنطقة نحو السباحة في مستنقع الديمقراطية، فيعقد مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في جدة على مستوى وزراء خارجية، لكن من دون أي إشارات إيجابية نحو حل الزمة العراقية أو السورية، رغم أن سورية والعراق دولتان مؤسستان لهذه المنظمة، لكن السعودية فرضت طابع تحميل الحكومة العراقية المسؤولية عن جرائم «داعش»، أما في شأن سورية فأحضر الجربا ليلقي كلمة مكتوبة له أهم ما ورد فيها شكر العربية السعودية على دعمها «الحراك الديمقراطي السلمي» الذي يخوضه «الجيش الحر»!
مع هذا الانتشار «الديمقراطي» في العالم خرجت علينا الأمم المتحدة ببدعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إذ أصبحت «إسرائيل» نائب رئيس اللجنة السياسية لمحاربة الاستعمار! وورد هذا الترشيح من قبل المجموعة الإقليمية لغرب أوروبا التي تترأسها بريطانيا، بالإضافة الى دول من خارج القارة الأوروبية مثل تركيا الحريصة على مصالح الأمة الإسلامية و«إسرائيل» وآخرين. ووفق المتبع في الأمم المتحدة الترشيح لا يحتاج إلى تصويت ولا يقبل اعتراضاً، ولكن لحفظ ماء الوجه اعترضت قطر كونها رئيسة المجموعة العربية لهذه الدورة.
أمام هذا المدّ «الديمقراطي الدموي» القائم على التقسيم العرقي والطائفي على شعوب هذه المنطقة خلق تحالف مقاوم لوقف الطوفان الذي سيطول الجميع ويحوّل المنطقة الى قبائل ممزقة تعتاش على الغزو وقطع الطريق.