الهجرة غير الشرعيّة… تجارة بالبشر وتفريغ البلاد من الشباب

يوسف الصايغ

لم تكن عائلة صفوان تدرك أنّ رحلتها من لبنان إلى أوروبا ستتحوّل إلى لعنة، بعد غرق القارب الذي كان يقلّ أفرادها من أزمير التركية إلى اليونان، ما أدّى إلى مقتل سبعة منهم، دفنوا قبل أيام في محلّة الأوزاعي بعد وصول جثامينهم إلى لبنان، حيث أقيم لهم استقبال رسمي وشعبي. ورأى وزير الاشغال العامة غازي زعيتر أن «اليأس والظروف الاجتماعية السيئة تدفع بالمواطنين للهروب بهذه الطريقة، والدولة تتحمل المسؤولية»، مشيراً إلى أن مافيات الهجرة غير الشرعية هي أجنبية بالغالب، وتستغل الأوضاع في لبنان. وعليه نسأل الوزير: من يحاسب هؤلاء؟

عائلة صفوان عيّنة من آلاف العائلات اللبنانية التي قرّرت أن تخاطر بحياة أفرادها وتركب قوارب الموت التي تؤمنها جماعات الهجرة غير الشرعية التي تمارس مهنة الاتّجار بالبشر من دون أي رادع. وتضع أرواح الآلاف ممن ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، في مهبّ رحلات التهريب المحفوفة بالمخاطر والأهوال، حيث يكون الموت حاضراً.

الأمل بحياة أفضل في دول الاتحاد الأوروبي التي فتحت حدودها أمام اللاجئين يعتبر الهدف الأول لأولئك الذين قرّروا أن يغامروا بأرواحهم وأرواح عائلاتهم ويضحوا بأرزاقهم، ويدفعوا جنى عمرهم ثمن هذه الهجرة. وربما ييذلون أرواحهم ثمناً لها.

رحلات الموت عبر المتوسط أضحت بارقة أمل للهاربين من نيران الحرب لا سيما تلك المشتعلة في سورية، لكنها أيضاً صارت الملاذ للبنانيين الذين يعانون في بلدهم من انعدام فرص الحياة اللائقة، ففضلوا أن يركبوا قوارب الهجرة بحثاً عن أملهم المفقود في وطنهم الذي تحوّل إلى غربة، بعد انعدام أبسط أنواع الخدمات فيه من التعليم إلى الطبابة، وصولاً إلى فرص العمل الضئيلة. وعلى كل من قرّر أن يغامر ويركب قارب الهجرة غير الشرعي، يجب أن يدفع سلفاً لمن يُسهّل له خروجه من لبنان مبلغاً يتراوح بين 2000 دولار لمن يريد أن يغادر إلى تركيا، و3500 دولار لمن يفضّل اليونان لأنها عضو في الاتحاد الأوروبي.

طرابلس… مصدر الهجرة الأول

تعتبر عاصمة الشمال طرابلس الخزان البشري للهجرة غير الشرعية، إذ دفع الفقر والبطالة مئات الشباب الذين تخطى عددهم عتبة 5 آلاف إلى خيار الهجرة الجماعية عبر زوارق الموت، في ظاهرة هي الأولى من نوعها بهذا الحجم الكبير منذ عشرت السنوات، ما يعكس حجم الأزمة التي تعانيها طرابلس التي تخسر شبابها ممّن فضّلوا مواجهة الأخطار على أن يبقوا في مدينتهم حيث ينعدم الأمل بغدٍ أفضل.

رحلة الهجرة من طرابلس تبدأ من من مرفأها بشكل طبيعي إلى أزمير التركية، قبل أن يُنقَل المهاجرون بقوارب غير آمنة عبر مافيات التهريب نحو اليونان، ومنها إلى مقدونيا أو المجر، أملاً بالوصول إلى ألمانيا التي أعلنت أنها ستستقبل 800 ألف مهاجر لبناني. ويبقى الأمل بالوصول إلى أرض الهجرة الموعودة محفوفاً بالمخاطر، حتى تطأ أقدام المهاجرين أرض «الوطن الجديد».

الهجرة لا يمكن اعتبارها غير شرعية، فهي تتم بعلم أجهزة الدولة الأمنية بحسب النائب السابق مصطفى حسين، الذي يشير في حديث إلى «البناء»، إلى «أننا نرى عناصر قوى الأمن الداخلي كيف ينصرفون إلى تنظيم محاضر الضبط بحق المخالفين ممن لا يضعون أحزمة الأمان في سياراتهم، بينما يتغاضون عن المئات الذين يذهبون إلى القوارب ويهاجرون عبر البحر. وربما يكونون شركاء لعصابات التهريب التي تقوم بنقل الآلاف عبر البحر».

ويحمّل حسين الدولة اللبنانية برمّتها المسؤولية عن تفاقم ظاهرة الهجرة نتيجة فشلها في تأمين أبسط مقوّمات الحياة من فرص عمل وطبابة وغيرها من الخدمات. ويلفت إلى أنّ «تيار المستقبل» يتحمّل المسؤولية لأنه جزء من التركيبة الحكومية ورئاستها بيده، لكن كلّ القوى السياسية تتحمل المسؤولية بشكل عام نتيجة تقاعسها. ويشير إلى أن عائلات بكاملها تهاجر من مناطق الميناء وباب التبانة وتقوم ببيع منازلها وممتلكاتها، بعدما فقدت الأمل بالعيش الكريم في ظل الوضع المعيشي الخانق.

ويختم حسين بالإشارة إلى مستوى العجز الذي وصلت إليه الدولة التي لم تنجح حتى الآن في إيجاد حلّ لأزمة النفايات التي غمرت الشوارع والطرقات وباتت تهدد حياة اللبنانيين، وهذا دليل على ضعفها وعجزها عن حلّ الأزمات، ما يدفع المواطنين إلى الهجرة بهذه الطريقة.

رئيس المركز اللبناني في الشمال كمال الخير يرى في حديث إلى «البناء» أن موسم الهجرة غير الشرعية مرتبط في الدرجة الأولى بفشل الوعود التي أطلقتها «الحريرية السياسية» لإنشاء المعامل والمستشفيات والمدارس والمؤسسات لتشغيل اليد العاملة في الشمال، فالناس يريدون أن يعيشوا في بلد تتوفر فيه فرص عمل وطبابة وتعليم، وهذا الوضع الصعب دفعهم إلى تزوير بطاقات هوية سورية بقصد الهجرة نحو أوروبا.

كما حمّل الخير الدول الأوروبية مسؤولية تفاقم ظاهرة الهجرة، فهي تريد إفراغ بلدان المنطقة ومن ضمنها لبنان، من الشباب لتشغيل معاملها ومصانعها بيد عاملة زهيدة، وبكلفة إنتاج أقل لإنعاش اقتصادها على حساب شبابنا المهاجر بحثاً عن لقمة العيش.

ويلفت الخير إلى أن الهجرة صارت ظاهرة متزايدة بعدما بلغ اليأس لدى المواطن أعلى المستويات. فهو يولد ليجد أن الديون متراكمة عليه، والمفارقة أننا نعيش في بلد صار غنياً بالنفط والغاز، لكن النفط والغازر لا يتم استخراجهما كي يستفيد المواطن عبر خلق فرص عمل جديدة.

كذلك يشير إلى أن مشروع الهجرة مرتبط بمخطط الحرب على منطقتنا، خصوصاً في لبنان وسورية، حيث يتم العمل على إفراغهما من الطاقات الشبابية، وهذا لم يحصل قبل الأزمة، لأن النظام في سورية كان يؤمّن فرص العمل والخدمات للمواطنين الذين كانوا يعيشون بأمان.

وفي لبنان، يرى الخير أن حلّ الأزمات وفي مقدّمها مسألة الهجرة تبدأ معالجتها عبر اعتماد قانون انتخابي على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، يكون كفيلاً بوصول قيادات تمثل الشعب، ودم جديد يخلق فرص العمل، ويمنع الشباب من الهجرة عبر تأمين فرص عمل لهم واستثمار الأدمغة في بلدانها. وعليه، يطالب الدولة بأن تقوم بواجبها في ملاحقة الذين يسهّلون ويشجعون الشباب على الهجرة.

تنسيق لبناني ـ تركي

في ظلّ تنامي ظاهرة الهجرة، تزايدت في الآونة الأخيرة طلبات استصدار الوثائق والمستندات لاستخراج جوازات السفر التي تؤمّن مغادرة المهاجرين من لبنان إلى تركيا من دون فيزا، وهو ما سهّل عملية الخروج من ميناء طرابلس إلى تركيا حيث تكون في استقبالهم مافيات التهريب اللبنانية ـ التركية التي تقوم بنقلهم بقوارب مطّاطية إلى اليونان.

وفي سياق العمل للحدّ من عمليات التهريب غير الشرعية، اتخذت السلطات اللبنانية تدابير مشدّدة عند المنافذ البحرية، كما أجرت اتصالات مع الحكومة التركية من أجل تأمين الحدود والتنسيق بما يخصّ دخول اللبنانيين وخروجهم من المياه الإقليمية التركية بطريقة غير شرعية، خصوصاً أن مناطق التجمّع والتهريب للسوريين واللبنانيين في أزمير وأنطاكية باتت معروفة.

الجيش اللبناني يتصدى

في وقت تواصل قوارب الموت رحلاتها من طرابلس نحو تركيا واليونان، بدأت القوة البحرية التابعة للجيش اللبناني في مواجهة هذه الظاهرة، بعدما أهمل الجميع هذا الأمر.

ونتيجة الرصد والمتابعة، أوقفت دورية تابعة للقوات البحرية قبالة طرابلس مركباً لبنانياً كان على متنه 53 شخصاً، بينهم 8 مواطنين لبنانيين و28 فلسطينياً و14 سورياً وثلاثة أشخاص مكتومي القيد، وذلك أثناء محاولة تهريبهم إلى خارج لبنان بطريقة غير شرعية، وأعيد المركب وجميع الذين كانوا على متنه إلى الشاطئ اللبناني، وبوشر التحقيق في الموضوع.

مصادر أمنية، أكدت أن الجيش اللبناني سيوقف كل قارب غير شرعي لم يخرج من المرفأ بشكل رسمي عبر نقطة الأمن العام اللبناني، مشيرة إلى أن الجميع يخضعون للتحقيق لمعرفة من يقف خلفهم ومن يقوم بتهريبهم. وشدّدت المصادر على أن ظاهرة الهجرة ليست جديدة في لبنان، لكن الطريقة التي تحصل بها غير شرعية، وتعرّض حياة المهاجرين لخطر الموت كما حصل مع آل صفوان.

ورأى المصدر الأمني، أن الجيش سيفرج عن الموقوفين إلا في حال وجود مذكرات بحق بعضهم، وإذا كانت أوراق السوريين منهم غير شرعية وذلك بعد الاستماع إلى إفاداتهم. مشيراً إلى أنّ بعض المخلّين بالقانون والمطلوبين للقضاء استغلوا الفرصة للمغادرة إلى الخارج عبر هذه القوارب إلى أوروبا، والتي غادر فيها مئات اللبنانين.

مرفأ الصرفند

في سياق التصدّي لظاهرة الهجرة غير الشرعية، أوقف 40 شخصاً من غير اللبنانيين مقابل شاطئ الصرفند على متن أحد الزوارق، ونُقل الموقوفون إلى ثكنة محمد زغيب.

مصادر أمنية أكدت أن سبب انطلاق زورق يحمل مهاجرين غير شرعيين من ميناء الصرفند للمرّة الأولى كان اختياراً بديلاً من مافيات التهريب عن مرفأ طرابلس الذي صار مرصوداً من القوى الأمنية، خصوصاً بعد ضبط أكثر من زورق في الآونة الأخيرة.

تخفيضات الشتاء

أشارت تقارير صحافية غربية إلى أنه ومع اقتراب حلول فصل الشتاء، تعتزم مافيات تهريب البشر تقديم تخفيضات لتفادى أزمة عبور البحر في شهور البرد القارس. ولفتت المصادر إلى إن حركة عبور البحر تتضاءل خلال فصل الشتاء، بسبب تصاعد الرياح الباردة وارتفاع الأمواج في البحر المتوسط، ولكن عدداً من المهرّبين وجدوا لأنفسهم مخرجاً لرفع الطلب على خدماتهم، وذلك بعرض تخفيضات موسمية.

وفي السياق، نقل عن أحد المهرّبين السوريين في مدينة أزمير التركية، قوله: «في الصيف كانت تكلفة الفرد الواحد تصل إلى 1300 دولار، أما الآن ومع زيادة الخطر في الشتاء، تم تخفيضها إلى 1000 دولار كحد أقصى، وذلك سعياً إلى جلب المهاجرين الأكثر فقراً، لأن التخفيض قد يغريهم بالمخاطرة للعبور إلى أوروبا في ظروف أصعب».

كما لفتت المعلومات إلى أن بعض المهرّبين يعدّون بواخر وقوارب كبيرة لفصل الشتاء، لأنّ القوارب المطاطية الصغيرة لا يمكنها العبور في الاضطرابات الجوية المتواصلة. مؤكدة نقلاً عن أحد المهرّبين أن المهاجرين سيواصلون رحلاتهم إلى أوروبا على رغم سوء أحوال الطقس.

ووفقاً للمتحدثة بِاسم المنظمة الدولية للهجرة في تركيا، آبي دومو، فإن فصل الشتاء عادة ما يشهد انخفاضاً في عمليات مرور البحر، ولكن في ظل الظروف الجارية من الصعب التكهّن بذلك. مشيرة إلى أن عودة عمليات نقل آلاف المهاجرين في سفن الشحن الكبيرة غير واردة، خصوصاً بعد الحملة التي شنّتها هيئات خفر السواحل لإنهاء تلك الظاهرة، متوقّعة أن يلجأ المهاجرون إلى الطرق البرّية بشكل أكبر في الفترة المقبلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى