تقرير
نشرت «إنترناشونال إنترست» تقريراً تساءلت في مستهلّه: لماذا تملك الولايات المتحدة ترسانة أسلحة نووية وماذا يفترض عليها أن تفعل بها؟
وتابعت: هذا في الحقيقة سؤال معقّد، خصوصاً في القرن الحادي والعشرين، فحتى خلال الحرب الباردة كانت هناك انقسامات قوية بين الاستراتيجيات الأميركية حول الغرض من الأسلحة النووية. كان البعض يرى أنّها كانت توجد فقط من أجل ردع الهجمات النووية على الولايات المتحدة، وكان آخرون يرون أنّها كانت موازن عسكري بين الغرب فائق التسليح وبين التحالف الشيوعي العملاق. كيف حصلنا على الرادع النووي الذي نملكه؟ وفي أي اتّجاه علينا أن نسير؟
إنّ القوة النووية الأميركية اليوم هي نتيجة تراكمية لعدد من القرارات التي اتّخذت على مدار 70 سنة. كانت قاذفات القنابل في فجر الحرب الباردة العمود الفقري للرادع النووي الأميركي، بما أنّه لم تكن هناك طريقة أخرى لإيصال الأسلحة إلى مسافات طويلة، كما طوّر السوفياتيون قاذفات قنابل طويلة المدى ولكنّها كانت تعد أدنى من نظيراتها الأميركية، وكان عليها عبور محيطين كي تصل إلى أميركا الشمالية.
حاولت الولايات المتحدة في البداية استخدام ميزاتها النووية في احتواء التوسّع السوفياتي عبر التهديد باستخدام قوتها النووية ردّاً على أي اعتداء سوفياتي في أي مكان. كانت هذه سياسة «ردّ الفعل الشامل» المتّبعة في حقبة آيزنهاور، ولكنّها كانت علامةً على اليأس أكثر منها استراتيجية. لم تكن أمام الولايات المتحدة وحلفائها طريقة لمواجهة تفوّق الاتحاد السوفياتي الهائل في الأسلحة التقليدية وحليفها الشيوعي الصيني الضخم في أوروبا أو آسيا بالقوة التقليدية. هدّد الأميركيون المتفوّقون سلاحاً وعدداً بالاستجابة في الأوقات والأماكن التي تختارها بالأسلحة النووية، ولكن واشنطن لم توضّح قط ما الذي سيحفّز هذه الاستجابة النووية. وكان ردّ الفعل الشامل، على رغم أنّه كان محاولة مبكّرة لتشكيك العدو، تهديداً أجوف بمجرّد أن أصبح بإمكان السوفياتيون الاستجابة بالطريقة نفسها.
نوّع كلٌ من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة منذ الخمسينات والستينات قواتهما الاستراتيجية، سرعان ما طوّر الجانبان صواريخ طويلة المدى، ولكن ربما كانت النسخ الأولية في أسوأ شكل ممكن إذ كانت هناك رؤوساً حربية فوق صواريخ غير دقيقة نسبياً ثابتة على قواعد الإطلاق. كانت هذه الصواريخ وقاذفات القنابل الموجودة في الخارج في الهواء الطلق مثل البطّ الجالس، ما جعلها إغراءً مزعزعاً وقويّاً للعدوّ كي يجعلها ضربته الأولى.
بدأت القوتان العظمتان في الستينيات في دفن صواريخهما في الأرض وإخفائها تحت الماء، كانت القدرة على البقاء هي مفتاح الاستقرار إذا لم يكن أي جانب يستطيع ضمان تحييد الجانب الآخر بهجومٍ مفاجئ، لن يخاطر أحدهما بالانتحار. خلق هذا الحالة التي يسمّيها الاستراتيجيون الأميركيون «التدمير المؤكّد المتبادل» وهي مرحلة اختاراها جزئيّاً بسبب تمسيتها المثيرة.
نشرت الولايات المتحدة صواريخها الباليستية العابرة للقارات فوق مساحات واسعة في الغرب الأميركي، ولكن الأميركيين استغلّوا مهاراتهم البحرية العالية لصنع رادع بحري قوي أيضاً كما فعل السوفيات ولكن بأعداد أقل . عنت هذه التغييرات أنّه سرعان ما كان للجانبين قدرة آمنة على تنفيذ هجومٍ ثانٍ، أو قدرة مضمونة على الرد بعد التعرّض لهجومٍ.
وصلت الولايات المتحدة بحلول عام 1967 إلى ذروة التسليح، فكان لديها 32.000 سلاحاً، من القنابل الصغيرة وحتى القنابل شديدة الانفجار، وعكس تنوّع القوى الحرب التي كان قادة الولايات المتحدة واستراتيجيّوها يتوقّعون خوضها. افترضت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الناتو خلال الحرب الباردة أنّه مهما كان الذي سيبدأ مواجهة بين الغرب والشرق، فإنّ الصراع سينتقل إلى الحدود الألمانية «الجبهة المركزية»، في أوروبا. وكانت هذه الدعوى تقول إنّ السوفيات سيتحفّزون تماماً لإبعاد أي صراعٍ بعيداً عن المناطق التي يكونون فيها أضعف أو أقل قدرةً مثل آسيا أو الشرق الأوسط ونقله إلى منطقة يتمتّعون فيها بتفوّق تقليدي ضخم.
بمجرّد أن تدور الحرب في أوروبا، سيكون الناتو مجبراً على الاستسلام مهما كانت المشكلة لكي يجعل السوفيات يرخون قبضتهم على أوروبا الغربية، منحت الأسلحة النووية الغرب فرصته الوحيدة لوقف مثل هذا الهجوم. قد تطلق الأسلحة الصغيرة قصيرة المدى الأسلحة النووية «التكتيكية» التي تبدأ من البازوكا وحتى المدفعيات، مدمّرةً دبابات السوفيات المتقدّمة ومعيقةً الغزو. كان الهدف إقناع الاتحاد السوفياتي أنّه لن يكسب شيئاً من الاعتداء، بما أنّ كل السيناريوات ستؤدّي إلى تبادل نووي كبير.
ولكن هل كان الأميركيون ينوون حقاً استخدام الأسلحة النووية؟ أم أنّهم كانوا يحاولون ردع السوفيات عن استخدام القوة النووية ضدّ الولايات المتحدة والناتو؟ كانت إجابة الولايات المتحدة: بناء قوة نووية مصمّمة لتلائم كلاً من الردع والحرب النووية. كان الموقف الأميركي في أواخر السيتينات في الحقيقة أشبه بمفارقةٍ إذ كانت الطريقة الوحيدة لإقناع الاتحاد السوفياتي أنّنا لم نرد أن نكون جزءاً من حربٍ نووية هي امتلاك خطة منطقية لخوض هذه الحرب، والحفاظ على قوةٍ موثوقة يمكنها تنفيذ تلك الخطة. ومن ثم تحوّل الثلاثي النووي الأميركي من أساس منطقي للقدرة على البقاء إلى زيادة الخيارات من أجل الاستخدام النووي في سيناريوات متنوّعة تتراوح بين ضربات محدودة وحربٍ شاملة، وتظلّ تلك القوة وخياراتها المتعدّدة في وضعها على نحوٍ كبير حتى اليوم.
اليوم قد انتهت الحرب الباردة ـ أو على الأقل الحرب الباردة الأخيرة ـ كيف يبدو الرادع الاستراتيجي الأميركي اليوم؟ وأيّ غرض عليه أن يخدم من أجل أمنها القومي؟
أولاً: من المهم الإشارة إلى أنّ معضلة ردّ الفعل الشامل ما زالت قائمة بطريقةٍ ما حتى اليوم، ماذا يمكن للقوة النووية الأميركية المصمّمة من أجل الحرب العالمية الثالثة أن تفعل ضد أمة صغيرة قد تفكّر في استخدام الأسلحة الكيماوية على سبيل المثال أو قنبلة تكتيكية واحدة في مواجهة إقليمية؟ هل الولايات المتحدة مستعدّة فعلاً لشنّ ضربات نويية ضد كوريا الجنوبية أو إيران؟
ثانياً: على رغم أنّ القوة الأميركية أصغر كثيراً الآن ممّا كانت خلال الحرب الباردة تملك على سبيل المثال 450 منصة إطلاق أرضية فقط بدلاً من 1000 ، وما زالت مصمّمة من أجل صراع نووي كبير مع منافسٍ بلا نظير. وفقاً لمعاهدة أميركا مع الروس لا يمكنها سوى امتلاك 700 قاذفاً ـ لأي مزيد من الصواريخ الأرضية أو غواصات الصواريخ إضافة إلى قاذفات القنابل ـ ولا يمكنها سوى حمل إجمالي 1550 رأساً حربية، كيف على أميركا إذا ترتيب قواها داخل تلك الحدود؟
لقد أجرت الولايات المتحدة ثلاثة تقييمات لقواها النووية في أعوام 1994 و2002 و2010، وانتهت فيها كلها إلى أنّها بحاجة إلى الإبقاء على الثلاثي، ولكن هل ما زالت أميركا بحاجة إلى قاذفات قنابل طويلة المدى؟ هل عليها التخلّص من الصواريخ الباليستية ونقل معظم صواريخها إلى تحت الماء كما قال البعض؟ كم نحتاج من الغواصات ومن الأسلحة عليها؟ هل ما زال الناتو بحاجة إلى أسلحة نووية تكتيكية بعدما أصبح حلف الأطلسي الآن قوة عظمى وروسيا قوة إقليمية أدنى؟
يواجه الرادع النووي الأميركي اليوم خيارات صعبة تتعلّق بالتحديث، ترسم القوات الجوية والبحرية خططاً لقاذفات جديدة وجيل جديد من الغواصات، ستحدّث الترسانة التكتيكية الأميركية بتكلفةٍ كبيرة. ستكون النتيجة في الواقع نسخة مصغّرة من الرادع النووي الذي امتلكناه خلال الحرب الباردة، وهي فكرة كان سيكون بيعها أصعب حتى تظهر روسيا مجدّداً بصورة تهديد شديد لأمن الولايات المتحدة. ولكن مع التكاليف المتوقّع أن تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، قد حان الوقت أن نسأل إذا ما كانت بنية قوانا النووية واستراتيجياتنا السابقة منطقية أم لا.
ستضطر الحكومة التالية إلى إجراء تقييمها الخاص للوضع النووي الأميركي عندما تأتي إلى المنصب بعد عام 2017، هل ستبدأ من الصفر أم ستصدّق فقط على قرارات اتّخذت في الستينات والسبعينات؟ لا قاعدة تقول إنّ الإجابات السابقة هي إجابات خاطئة ولكن كل مخطّط يعرف أنّ هناك دائماً عدو ماكر صعب عند تنظيم القوى المستقبلية وهو الجمود البيروقراطي.