«ذاهبون إلى النصر»… وعده الصادق… والشهادة بشرف
د. سلوى خليل الأمين
حين حمل الإمام الحسين بن علي كلمة الحق إلى كربلاء كان يعلم انّ قلوب الناس في العراق معه وسيوفهم عليه، ومع هذا مشى إلى الموت حاملاً عائلته وأنصاره الخلّص الميامين غير عابئ بالموت، لأنّ الاستشهاد قدر كتب بإذن الله الواحد الأحد، إكمالاً لرسالة الله التي حملها السيد المسيح عيسى بن مريم في عصر الجهالة العظمى التي أدّت إلى صلبه من طغاة زمنه، الذين لم يستطيعوا محو كلمة الله المنزلة إلى بني البشر من المريدين والأتباع، فاستمرّت الرسالة صعداً مع ظهور الإسلام إلى حين وفاة الخلفاء الراشدين واغتصاب الخلافة من قبل معاوية بن أبي سفيان من الخليفة الرابع الإمام علي ومن ثم توريثها لإبنه يزيد المعروف بفسقه وفساده وانحرافه عن مضامين الدعوة الإسلامية، مما جعل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب يحث أتباعه على التوجه معه إلى العراق لأخذ البيعة من يزيد، حرباً أو سلماً، فكانت موقعة الطف في كربلاء التي أعدّ لها يزيد العدة، حتى لو أدّت إلى مقتل الحسين وأنصاره وأهل بيته.
هذه الثورة الكربلائية ما زالت قائمة حتى عصرنا هذا، من الطغاة البغاة حكام الاستكبار العالمي وبني صهيون ومن معهم ومن يتبعهم من حكام العرب، بحيث بات الحق منوطاً بمن يمتلك القوة الجبارة حتى لو استبدّ وتغطرس وظلم وقهر واحتلّ البلدان الآمنة واستعمر العباد دون مشورة أو التزام بالقوانين الدولية، مخترقاً سيادة الأوطان بالقوة العسكرية الهمجية. هذا الاستكبار في الظلم ما زال متمدّداً من عصر إلى عصر وإلى ما لا نهاية، لهذا فجرت الثورات المدعّمة بالمقاومة الجهادية والأفكار الثورية الوطنية والقومية النهضوية، التي تعتبر الاستشهاد من أجل ردّ الظلم والمظالم واجباً وطنياً وشرعياً، أمام انصياع الشعوب على امتداد الأزمان والأدهار للحاكم الأقوى، حتى لو كان على فجور وضلالة وفسق وفساد وقلة إيمان.
لقد خذل السيد المسيح من بعض أتباعه، فكان الفريسيون الذين باعوه بثلاثين من الفضة، كما كان بعدها يزيد بن معاوية السفياني الذي اغتصب والده معاوية الخلافة الرابعة من الإمام علي بن أبي طالب، علماً انّ المسلمين جميعهم يعترفون ويقرّون بأحقية الإمام علي بالخلافة الرابعة، بدليل أنه حين يذكر الخلفاء الراشدون في زمننا هذا وعبر الماضي والحاضر والمستقبل، يذكر الإمام علي بينهم، باعتراف كلّ الفرق الإسلامية التي تتبع المذهب السني بكلّ مدارسه، حيث لا سنة ولا شيعة في زمانهم، بل إسلام موحّد، عمل على تضعضعه وإدخاله في مجرى الفتن والدسائس معاوية بن أبي سفيان ومن بعده ابنه يزيد حيث كرّت سبحة التفرقة المذهبية إلى زماننا هذا… وربما إلى يوم الحشر.
إنّ ثورة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين بن علي رسمت عبر التاريخ حدثاً كبيراً مؤلماً، ما زالت مفاعيله قائمة إلى تاريخنا هذا، الذي يشهد اغتصاب فلسطين والتعدّي على حقوق الشعب العربي ونهب ثرواته من طغاة العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية ومعها بني صهيون ومشروعهم التلمودي الذي يسعى إلى جعل فلسطين المغتصبة دولة يهودية على مسمع ومرأى من العرب والمسلمين أجمعين.
لهذا كانت معركة الطف في كربلاء مسيرة جهاد من أجل إعلاء كلمة الحق ومقاومة الباطل، والهدف واضح عبر التاريخ، وهو إعادة الحق إلى نصابه ليس كسلطة يتولاها الإمام الحسين، بقدر ما هي مسار حفظ للرسالة الألهية، التي شذ بني أمية عن أهدافها وتعاليمها وقيمها ومبادئها الأخلاقية والسلوكية والإنسانية، فكان لا بدّ من الثورة الحسينية الهادفة إلى تقويم الاعوجاج والقضاء على فساد السلطة الذي أتبعه حكام بني أمية في ذلك العصر، من أجل إعادة رسم المسار الصحيح للدعوة الإسلامية الحقيقية، التي خطت من جديد عناوينها الكبرى الثورة الكربلائية فوق صحائف التاريخ، مراحل جهاد ومقاومة واستشهاد يعلو ولا يعلى عليه، في سبيل عزة الأوطان وسيادتها وكرامات شعوبها.
لهذا لا يمكن ان يموت حق وراءه مقاوم ومطالب، وها إنّ العالم يشهد، أنّ مضامين ثورة كربلاء لم تخمد لتاريخه، بل تزداد علواً كلما ارتفع الظلم والاستكبار العالمي والإرهابي والدعوات الدينية المزيفة باسم الإسلام الذي هو الأنموذج الحق لرسم الشهادة في المقامات الإلهية العليا، من هنا تأتي مقاومة بني صهيون وكلّ متعدّ مكابر من دول الاستكبار العالمي والعربي الخانع والمستسلم، وكلّ من يقف في صف «إسرائيل» مسقطاً القضية الفلسطينية من الأجندات القومية والوطنية، ومتعامياً عن تدمير المسجد الأقصى في القدس الشريف ومهد المسيح في بيت لحم، وعن استشهاد مئات الشبان الفلسطينيين الذين ينتفضون للمرة الثالثة ضدّ من سلبهم وطنهم وقضيتهم المزنّرة بكربلائية الموت استشهاداً، أمراً ملزماً، بحيث لن تقوى «إسرائيل» وأميركا بعد اليوم على لجم المقاومة أو تحجيم الشعوب والدول التي تصمد وتتصدّى لمؤامراتهم الشريرة، خصوصاً انّ المقاومة الوطنية الشريفة هي بالمرصاد لكلّ مستكبر، عالمي أو عربي، مهما بلغت درجة قوته، بدليل هزيمتها للعدو «الإسرائيلي» المتتالية في جنوب لبنان وفي غزة، وتصدّيها للطاغوت العالمي والعربي كما سورية التي ما زالت صامدة في وجه كلّ القوى الاستكبارية العالمية والعربية كما العراق واليمن بالتنسيق والتعاون مع االدول الحليفة: إيران وروسيا والصين حتى الانتصار الأخير الذي أطلقه وعداً صادقاً لا رجوع عنه، مهما تعاظمت مؤامراتهم داخل الوطن وخارجه، سماحة السيد حسن نصرالله بالقول: ذاهبون إلى النصر».
فها نحن الآن نشهد وكلّ العالم أيضاً يشهد، أنّ ثبات المقاومة على إعلاء كلمة الحق وراية الانتصار ليست عنواناً مزيّناً بشرائط سوداء أو هدير أصوات في واد عميق، بل هو الهدف المنزّه عن الغايات السلطوية الخاصة، والمرتجى المعقود على نواصيه الأمل بتحرير الأرض والعرض والشرف والكرامات، وسيادة الأوطان التي آلت على نفسها الدفاع عن حقوقها وسيادتها المستباحة، عبر ثبات رجال الله في الميدان، وصمود أحرار الأمة الذين اتخذوا شعارهم الشهادة الحسينية في موقعة الطف في كربلاء مساراً يعلو بعبارة الحق التي تهدر في الساحات: هيهات منا الذلة، والتي أثبتت قوة مضامينها على مدى خمس سنوات على أرض سورية التي تعرّضت لخيانة الأشقاء والأخوة العرب الذين انغمسوا في ترياق أميركا المسموم، ظناً منهم انها القادرة على حماية عروشهم التي ينخرها السوس.
لقد أوضح قائد المقاومة السيد حسن نصرالله في خطابيه القويين في التاسع والعاشر من المحرم أهمية ما نحن عليه من مستقبل الأيام التي تحمل في طياتها علامات الانتصار، الذي يخطه شرفاء الأمة من المقاومين والمجاهدين في كلّ من لبنان وسورية والعراق واليمن وفلسطين بمنتهى الشجاعة والبطولة والصبر على الشدائد، عنواناً كبيراً لمجد الأمة الآتي، حتى لو كره الكارهون والمتزلفون، فمن ارتضى بالموت استشهاداً وطريقاً إلى إعلاء كرامة الأوطان حتماً سيكون النصر حليفه في معركة الشرف والكرامة، الآيلة إلى تحرير فلسطين من رجس الشيطان الرجيم، والمساهمة مع سورية واليمن والعراق في نصرهم على الشيطان الأكبر الذي هو أميركا الداعمة لكلّ حركات الاستعباد والإرهاب.
رئيسة ديوان أهل القلم