الأزمة في لبنان والرهان الفاشل على متغيّرات إقليمية ودولية
إبراهيم ياسين
من الواضح أنّ الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية التي يعانيها لبنان وشعبه، تشهد المزيد من التفاقم، وخصوصاً مع الشلل الكامل الذي يصيب مؤسسات الدولة الأساسية، ولا سيما الحكومة والبرلمان، فيما سدة الرئاسة الأولى شاغرة منذ فترة طويلة.
هذه الأزمة التي انعكست على الواقع الاقتصادي والخدماتي أدّت إلى تفجّر ما سمّي «بالحراك الشعبي» وإلى الأزمة الحكومية، على خلفية استمرار فريق 14 آذار، وفي مقدّمته تيار المستقبل، في سياسة الاستئثار بالسلطة وعدم احترام الدستور والشراكة المبنية على الأوزان والأحجام النيابية، وظهر ذلك في محاولة فرض التعيينات التي تتناسب مع مصالحه، متجاهلاً في ذلك التيار الوطني الحر الذي يمثل الشريحة الأكبر، على الصعيد المسيحي. لا شك أنّ هذه السياسة أدّت إلى تعطيل الحكومة، واستطراداً إلى تعطيل مصالح المواطنين والتأثير على أداء مؤسسات الدولة، ما يطرح بعض الأسئلة في شأن سبل الخروج من الأزمة، وما إذا كانت الحكومة الحالية سوف تستقيل، وبالتالي ماهية المخارج التي يمكن أن تخرج البلاد من الأزمة:
أولاً: لا بدّ من القول إنّ الأزمة التي يشهدها لبنان والمتفجرة منذ عام 2005 لا يمكن الخروج منها من دون إصلاحات حقيقية في بنية النظام اللبناني، ومن الواضح أنّ العقبة أمام إجراء الإصلاحات هي وجود هذه الطبقة السياسية الفاسدة والمستأثرة بالسلطة، والتي ترفض العودة للاحتكام إلى الشعب، إنْ كان على صعيد انتخاب رئيس جديد للجمهورية أو على صعيد خيارات لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لهذا فإنّ هذه الطبقة السياسية ترفض التوصل إلى قانون انتخاب عادل مبنيّ على النسبية وخارج القيد الطائفي لأنه سوف يؤدّي إلى كسر احتكارها للتمثيل النيابي، ويقطع عليها طريق إعادة إنتاج برلمان تهيمن على الأغلبية فيه، ويضمن لها استمرار هيمنتها واستئثارها بالسلطة. ولهذا فهي تريد أن تتمثل بالقانون الانتخابي الأكثري الذي يضمن لها تحقيق هذا الهدف.
ثانياً: إنّ قوى 14 آذار التي نجحت في الحصول على الأغلبية في المجلس النيابي في الانتخابات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري تشعر الآن أنّ إجراء الانتخابات النيابية قبل انتخاب رئيس للجمهورية سوف يؤدّي إلى خسارتها مرتين. الأولى، عند فقدان الأكثرية النيابية بسبب التبدّل في موقف الرأي العام الشعبي على خلفية فشل خياراتها السياسية ومسؤوليتها في الأزمة الاقتصادية والخدماتية المتفاقمة في البلاد، وخصوصاً أزمة النفايات والثانية عدم قدرتها على التحكم في إيصال رئيس للجمهورية موال لسياساتها كالرئيس ميشال سليمان.
ثالثاً: إنّ المعضلة الأساسية في لبنان التي تتسبّب في استمرار الأزمة والحؤول دون إيجاد الحلول المحلية لها تكمن في تبعية قوى 14 آذار للسياسات الأميركية والرجعية العربية التي تتحكم بمصير لبنان وتمنع اللبنانيين من تقرير مصيرهم بأنفسهم لأنها لا تريد أن تفقد هيمنتها ووصايتها على لبنان وتسعى إلى فرض الحلول التسووية التي تضمن من خلالها استمرار نفوذها السياسي واستطراداً استمرار التدخل في شؤون لبنان الداخلية، كلما استدعت مصالحها ذلك.
ومن الواضح أنّ قوى 14 آذار والدول الداعمة لها كانوا ولا زالوا يراهنون على إبقاء الأزمة في لبنان في مرحلة «ستاتيكو»، معلقة بانتظار حصول تحولات في البيئة الإقليمية والدولية لمصلحتهم، بما يمكنهم من فرض الحلول التي تحقق أهدافهم. وفي هذا السياق، فإنهم انتظروا وما زالوا ينتظرون نتائج حربهم الإرهابية ضدّ سورية علها تقود إلى ما يحلمون به من متغيّرات في مصلحة مشروعهم. غير أنّ المعطيات والوقائع الأخيرة تعزّز وجهة النظر التي تقول بأنّ هذا الرهان سيكون مصيره الفشل تماماً، كما فشل الرهان على تطويع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر نظام العقوبات والحصار، حيث اضطر الغرب، صاغراً، بالتسليم بفشل سياسته التي انتهجها ضدّ إيران، والإقرار بحقها بامتلاك برنامجاً نووياً للأغراض السلمية، ما أصاب حكام السعودية وكيان العدو الصهيوني بالصدمة والمرارة والخيبة.
فسورية اليوم، وبعد نحو خمس سنوات من صمودها الأسطوري في مواجهة أشرس حرب إرهابية عالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، باتت سورية اليوم في مرحلة من يمسك بزمام المبادرة في الميدان بعد الحضور الروسي العسكري القوي إلى جانب جيشها الذي جرت إعادة هيكلته على نحو مكّنه من الانتقال إلى الهجوم على كلّ جبهات القتال بغطاء جوي روسي، وقد أدى ذلك إلى توجيه صفعة قوية للمخطط الغربي وأدواته في المنطقة وقطع الطريق على سياسة الابتزاز الأميركية التي كانت توظف إرهاب «جبهة النصرة» و«داعش» وغيرهما من أجل فرض إملاءاتها السياسية لحلّ الأزمة في سورية أو إطالة أمد الحرب لاستنزاف سورية عبر الاستمرار في تقديم الدعم العسكري والمالي للجماعات الإرهابية المسلحة. فيما أدّى هذا التطور في الميدان لمصلحة الجيش السوري إلى تعزيز قوة الموقف السوري على الصعيد السياسي والمتمثل منذ بداية الأزمة في رفض أية حلول تنتقص من سيادة واستقلال سورية وحقّ شعبها في تقرير من يحكمه عبر صناديق الاقتراع بعيداً عن أي تدخلات خارجية.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو لتسقط رهانات الغرب وبعض الدول الإقليمية على تسويق حلّ للأزمة السورية يقوم على تنحية الرئيس الأسد، أو عدم الاعتراف بشرعيته المستمدّة أصلاً من إرادة الشعب السوري الذي انتخبه قبل عامين بأغلبية مشهودة غير منتقصة.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ استمرار الرهانات الآذارية على إحداث تغيير في سورية يتماشى مع مصالحها في لبنان، إنما بات رهاناً خاسراً ولن يؤدّي الاستمرار فيه إلا إلى مزيد من النتائج السلبية على هذا الفريق.
إنّ تأجيل الشروع في حلّ الأزمة لن يترتب عليه سوى تقديم المزيد من التنازلات من قبلها لأنّ موازين القوى التي ستنشأ، إثر انتصار سورية في الحرب ضدّ القوى الإرهابية، سوف تعزز موقع القوى الوطنية والمقاومة في لبنان والمنطقة وليس العكس، وبالتالي فإنّ أيّ حلّ لا يستجيب لإرادة الشعب اللبناني لن يكون بالإمكان فرضه، وفي هذا السياق يمكن إدراج ما قاله أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في ذكرى عاشوراء، والذي نصح فيه قوى 14 آذار بعدم انتظار المتغيّرات الإقليمية والدولية، لأنها لن تأت لمصلحتهم، على أنّ أيّ حلّ للأزمة الآن أو في المقبل من الأيام لن يكون ممكناً إذا لم تجر انتخابات نيابية على أساس قانون النسبية، وفي حال ارتكب فريق 14 آذار حماقة استقالة الحكومة وتحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال فإنه عملياً يدفع الأمور باتجاه عقد مؤتمر وطني تأسيسي يصبح المعبر الإلزامي لإيجاد الحلول للأزمة في ظلّ عدم وجود أيّ مؤسسة شرعية قادرة على اتخاذ القرار والحلّ الوحيد أن يتوصّل المؤتمر إلى إصلاحات جذرية يأتي في مقدّمها قانون الانتخابات الذي يقوم على قاعدة النسبية وخارج القيد الطائفي، كما حصل في أعقاب أزمة 1958، بالإصلاحات الشهابية وأزمة عام 1975 التي انتهت بإصلاحات الطائف.
ناشط سياسي