السوخوي في «فيينا» يكرّس انتصار الأسد ويثبث قوة الردع الإيرانية والقناة العُمانية الأكثر أهلية لصناعة أيّ لحظة جدية لحلّ سياسي
هتاف دهام
نسفت فيينا جنيف 1 وشكّلت حقبة جديدة قامت على أنقاض الحقبة الماضية سياسياً واستراتيجياً. وفّرت محادثاتها نقطة انطلاق لمسار الحلّ السياسي في سورية وشكّلت أُسساً لمرتكزات وقوة دفع ستجعل قاطرة فيينا السورية تُقلع، على أن تُكرّس عناوينها وموازين قواها على الأرض السورية في النهاية.
أسّس المؤتمر لبداية جديدة في سياق طويل، فنحن أمام معركة طويلة في السياسة لتكريس المعايير التي اعتمدت والتي ستبقى خاضعة للصراع العسكري وما سيفرزه الميدان من معطيات ستؤدّي إلى هزيمة المشروع التكفيري، وللعبة تحسين الشروط، خاصة أنّ العناوين الكبرى لم يُتفق عليها جميعها بعد، فكيف عندما يبدأ التطبيق وتدخل الشياطين وتفاصيلها على خط العناوين؟
تجنّب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الكلام عن الرئيس السوري بشار الأسد رغم محافظة المثلث السعودي القطري – التركي على طبقة الصوت العالية الرافضة لبقاء الأسد. والفرق بين التركي والخليجي من جهة، والأميركي من جهة أخرى، أنّ الأخير لديه خبرة طويلة في سياسة الحدّ من الخسائر والتكيّف مع الوقائع مهما كانت قاسية وصعبة، والتعاطي مع الحقائق الموجودة على الأرض بكثير من المرونة، في حين أنّ الخليجيّين والأتراك الذين يلعقون الخيبة تلو الخيبة جرّاء سقوط مشروعهم التآمري على سورية، يحاولون أن يعوّضوا عن هذه الحقيقة المُرّة لهم بسياسة التعنّت.
المهم أنّ ليالي الأنس لم تتعثّر والمشاركون حققوا خرقاً مهماً في تجنّب انهيار المحادثات، أجمعوا على محاربة الإرهاب واعتبروه مقدّمة على أيّ شيء آخر، واتفقوا على تسعة عناوين، ستشكل نقطة انطلاق في الموعد الجديد الذي حُدّد بعد أسبوعين من فيينا الأول.
ويجري الحديث عن جنيف 3 كخطوة مفصلية تُلغي ما قبلها من جنيف 1 و2، قوامها الطّرح الروسي للحلّ السياسي عبر بوابة الانتخابات النيابية ومكافحة الإرهاب والتعاون مع الجيش السوري وبعض تنظيمات المعارضة غير المتطرفة التي لا يُمانع الجيش السوري التعاون معها، فهناك مصالحات تجري في بعض المدن السورية مع هذه المجموعات.
خرجت المحادثات بتأكيد الإبقاء على سورية موحدة، وبالسعي لوقف إطلاق نار شامل، وتشكيل حكومة جديدة، جديرة بالثقة، وغير طائفية، ولا تُقصي أحداً، قبل إجراء انتخابات جديدة. ودعت أطراف المحادثات السورية الأمم المتحدة لجمع الحكومة والمعارضة السورية من أجل هذه العملية السياسية.
وبرغم الاختلاف على مصير الرئيس السوري، تمّ تأكيد دوره في وقف إطلاق النار، حيث من جهة الدولة السورية هناك من يستطيع إعطاء الأمر بوقف إطلاق النار ويضمن تنفيذ هذا الأمر، في حين أنّ الطرف الآخر الذي يجب أن يطبّق هذا البند فهو مجهول الهُويَّة. لا أحد يمكنه أن يحدّد من يمثّل ما يُسمّى المعارضة السورية، أو من هو الإرهابي وغير الإرهابي من المجموعات المسلحة، ومن يرفع السلاح في وجه الدولة السورية. وهذا ما دفع وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى سؤال المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا يوم أمس في دمشق عن تجنّب محادثات فيينا رغم أهميتها الإشارة إلى ضرورة تنفيذ القرارين 2199 و2170، لمنع تمويل الإرهاب. لا سيّما أنّ هذا الالتزام ضروري لكي تصبح جهود مكافحة الإرهاب فعّالة، ويصبح الحديث عن أيّ وقف إطلاق النار مُجدياً.
إنّ اعتراف البيان بضرورة أن تكون سورية دولة موحدة، دحض منطق الأقاليم الذي اعتُمد في العراق والمناطق الانفصالية، وشكّل ضربة لمنهجية المشروع التآمري الأميركي الغربي القائمة على تفتيت سورية وتحويلها فيدرالية طوائف على النموذج اللبناني بالحدّ الأدنى، أو تقسيمها بالحدّ الأقصى. ومجرّد أن يصدر عن فيينا تأكيد وحدة التراب السوري فهذا إقرار حاسم بأنّ صمود الدولة السورية في حلب والحسكة ودير الزور هو من الأسباب المباشرة التي فرضت على هؤلاء، مرغَمين، وحدة التراب السوري هذا فضلاً عن أنّ مجرد تأكيد تشكيل حكومة جديدة غير طائفية هو إسقاط لجنيف 1 خاصة أنّه لم تتمّ الإشارة إلى مسألة حجم الصلاحيات المُنوطة بها، أو أنها هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات، كما كان يتحدث المتشدّقون بجنيف1. وبذلك يشكّل عنوان الحكومة دليلاً على انتصار منطق الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين.
يُفهم من تشبّث المجتمعين بسورية العلمانية، أنّ من سيحافظ ويدافع بشراسة عن علمانيتها هو الرئيس الأسد رغم اتهامه المبتور بانتمائه إلى أقلية طائفية إذ لا أحد يضمن للمجتمع الدولي بقاء سورية دولة علمانية في ظلّ الكمّ الهائل من المعارضات المتطرفة، والتي بالكاد نجد فيها تسمية واحدة أمام الآلاف من المُسمّيات التكفيرية والإرهابية، وهذا انتصار إضافي لنهج الرئيس السوري وحلفائه.
إنّ دولة من طبيعة سورية لا يمكن أن تكون على برّ الأمان إذا لم تكن علمانية، وهذا يعني أنّ كلّ الأقاويل التي روّجها الفكر التكفيري والوهابي بالادّعاء بما يُسمّى «الدولة الإسلامية» وغيرها من المسمّيات… مرفوض دولياً، فهذا العنوان المتوافق عليه في فيينا شكّل إدانة وضربة قاصمة لأكثر من 90 من الدول، وعلى رأسهم السعودية وقطر وتركيا. هذه الدول الثلاث التي دعمت كلّ المنظمات الإرهابية ووصلت إلى حدّ تصنيفها معتدلة، كما فعل وزير الخارجية القطري خالد العطية الذي سمح لنفسه بتسمية حركة «أحرار الشام» بأنها حركة معتدلة، علماً أنّ مؤسّسها يُدعى أبو خالد السوري، مبعوث تنظيم «القاعدة» إلى سورية، وهو الذي ساهم بتأسيس «جبهة النصرة» لاحقاً والذي قُتل على يد تنظيم «داعش» الإرهابي في وقتٍ لاحق.
لن يقرّر أحد عن الشعب السوري الدولة التي يريدها، فهو الذي سيختار الرئيس، ولن يكون للخارج أيّ دور في هذا المسار سوى المساعدة في إنتاج بيئة للحوار تساعد السوريين في الوصول إلى حلّ، وهذا يشكّل بذاته ردّاً مباشراً على جميع الذين يتشدّقون بالقول بأنّ «على الأسد أن يرحل»، و»أنّ ليس له مستقبل في سورية»، وكان لافتاً استهزاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بسؤاله وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مَن الذي انتخب الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز؟
وإذا كانت مؤسسات الدولة السورية هي المؤسسات المتمسَّك بها وباستمرارها، فإنّ المدخل إلى كلّ ذلك يكون من خلال القرار الشعبي المعبَّر عنه باستفتاء أو بانتخابات، ويعني ذلك أنّ طموحات البعض بمرحلة انتقالية تُقصي الأسد وتنصّبهم حكاماً باتت في سلّة المهملات التاريخية. فمبدأ الانتخابات الذي شدّد المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية السيد علي خامنئي على أن يكون هو الحكم والفيصل في النزاع السوري هو أصلاً رغبة ومطلب الرئيس الأسد والمحور الذي ينتمي إليه منذ البداية، والطرف الآخر هو الذي كان يهرب ويتهرّب من هذه الكأس المُرّة لعلمه أنّ الرئيس السوري هو رئيس على مستوى كلّ سورية، وأنّ صناديق الاقتراع ستكشف حجم المؤامرة التي تتعرّض لها هذه الدولة، فهؤلاء لا يعرفون من الديمقراطية غير اسمها.
لقد شكّل تدخُّل طائرات السوخوي على خط الأزمة السورية الرافعة الحقيقية لكلّ الاجتماعات التي شهدتها فيينا، فلولا هذا التدخل الروسي، لما كانت هذه الحيويّة العالمية المستجدة حول سورية، خاصةً بالنسبة إلى الأطراف القلقة من الواقع الميداني للروس، والذي يمكن أن يأخذ سورية خارج الحسابات التي كانوا يبنون عليها حساباتهم مع تنظيم «داعش» الإرهابي. فالغرب كلّه رتّب أموره وأوضاعه بادّعاء الحرب على هذا التنظيم بهوامش زمنية تطول أو تقصر تبعاً لمصلحة هذا الغرب في سورية.
إنّ المشاركة الروسية قلبت الطاولة كلها في المشهد السوري منذ الثلاثين من أيلول الماضي، وفرضت انقلاباً كاملاً في الوقائع الميدانية، وتالياً في الوقائع السياسية، وشكّلت في حركة هذه القاطرة التي تسحب الجميع.
لم يتوانَ الروسي عن بناء سياق موازٍ لحركته في الميدان، وهذا السياق السياسي شكّلت فيه زيارة الرئيس السوري إلى موسكو ذروة الاستقطاب التي جعلت روسيا محور الحركة السياسية. وحقق الروسي تالياً مجموعة من الأهداف الأولية فهو فكك عزلته العالمية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية التي خلقها الغرب، وشكّل ثنائية تنسيق مع الأميركيين عبّرت عنها لقاءات لافروف – كيري، وعرّى الحلف الذي كان يدّعي الحرب على الإرهاب، وكشف الكثير من ادّعاءاته في إطار الحرب على تنظيم «داعش»، وبنى في الشراكة مع الأميركيين حيوية سياسية استقطبت خصومهم القلقين من الفعل الميداني الروسي، لتشكل موسكو محجّة لزيارات تركية وسعودية وإماراتية وقطرية، وصولاً إلى لقاءات فيينا في النصف الثاني من الشهر الفائت، ومن ثمّ لقاءات يوم الجمعة الماضي.
تكمن أهمية المحادثات، بعد التدخل الجوي الروسي في سورية، أنها أقرّت بضرورة مشاركة كلّ الأطراف الذين لهم علاقة بالأزمة السورية، لا سيّما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تمّ إعطاء شرعية لدورها في إيجاد حلّ لهذه الأزمة بعد إقصاء لها في المؤتمرات السابقة، بعدما كان هناك استفراد من قبل واشنطن الرياض في القرارات، وفرض شروط أميركية للحلّ السياسي، مع تأكيد أنّ إقصاء الحكومة السورية بحسب مصادر دبلوماسية لن يستمرّ طويلاً. فهذا المحور يراهن على أن تجري حلحلة لهذا الأمر بالتزامن مع تقدّم العمليات العسكرية بحيث يتمّ الإقرار بدور الحكومة السورية والاعتراف بالدولة السورية، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين كرّس انتصار الرئيس السوري بتأكيده أنّ حلّ الأزمة السورية غير ممكن إلا بتعزيز الحكومة الشرعية الموجودة وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد، وأنّ لا غنى عن الجيش السوري في مواجهة الإرهاب.
ويرى متابعون أنّ هناك مجموعة من الحقائق التي لا يمكن إلا أن نلحظها بعد الحراك السياسي الذي جعل الأزمة السورية تعود بقوة إلى مركز الضوء:
1 ـ خطر الإرهاب الداهم وأولوية محاربته ومواجهته، فما رفضه الغرب في جنيف1، حين أكّد المعلم ضرورة التركيز على مكافحة الإرهاب وإلزام الدول الداعمة للإرهابيين بوقف تمويلهم، عاد اليوم ليقبل به مُرغَماً.
2 ـ إنّ زيارة الأسد إلى موسكو ألقت بثقلها على الواقع، وعلى عدم القدرة على السير بالحرب على الإرهاب من دون الرئيس الأسد، ومن دون الجيش السوري.
3 ـ عجز المملكة السعودية عن الاستمرار في عزل الجمهورية الإسلامية عن المشهد العالمي حول العنوان السوري، ولم تستطع كيدية الرياض الاستمرار في وضع فيتو سعودي على الدور الإيراني المؤثِّر في سورية والمنطقة فمفاعيل هذا الفيتو المرفق برفض الائتلاف السوري مشاركة إيران في أيّ محادثات سياسية حول سورية، لم تستمرّ أكثر من أسبوع واحد، اضطر بعده العالم لاستقبال الإيرانيين في فيينا يوم الجمعة في موقع الضيف الاستثنائي الذي ينظر الجميع إلى حضوره المؤتمر، وإلى دوره الحاسم الذي لا يمكن تجاوزه سواء بحلّ سياسي للأزمة السورية، أو بجديّة العالم بالحرب على الإرهاب التكفيري. والمضحك المبكي أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي التي طرحت وسوّقت أهمية حضور الإيرانيين وضغطت على حلفائها الخليجيين، حيث اتصل الرئيس الأميركي باراك أوباما بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ليفرض عليه قبول حضور وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مؤتمر فيينا إلى جانب نظرائه الدوليين والإقليميين.
كلّ هذه الحيوية التي خلقتها فيينا، لا تنفي وجود اختراقات هائلة في الرؤية بين محورين ومنطقين ورؤيتين وحلفَين فالغرب يحاول أن يسوّق أنّ هدف مؤتمر فيينا الحقيقي هو وضع حدود زمنية لأيّ دور يمكن أن يؤدّيه الأسد في المرحلة المقبلة، علماً أنّ جوهر الأمور وما يُدركه الأميركيون قبل غيرهم أنّ السعي الفرنسي البريطاني – السعودي لمحاولة حصر كلّ هذه الحيوية السياسية بعقدة الأسد، تنفيه الوقائع الميدانية وموازين القوى، وتنفيه الحاجة إلى الرئيس السوري والجيش السوري لهزيمة الارهاب، وينفيه الحضور الإيراني في فيينا، والأبعاد الحقيقية من استقبال الأسد من سيّد الكرملين في الشكل والمضمون الذي لاقاه فيه. وكلام مدير الاستخبارات الفرنسي برنار باجوليه لا يُعبّر إلا عن خيبة أجهزة الاستخبارات الغربية، وعجزها عن القدرة على استيعاب الوقائع، وسقوط خياراتهم الاستراتيجية على ضوء الحضور الثقيل الذي فرضه الروس في مشهد سورية والمنطقة، والذي هو الآن يصنع الأحداث كلّها.
لذلك ورغم إعلان السعوديّين عن قرب إنهاء العدوان على اليمن وشعبه، وهذا ما قد يفسّره البعض إشارة أولى في لعبة المقايضة بين الملفّات، إلا أنّه من المبكّر توقُّع نتائج ملموسة قبل أن ينجلي غبار الحملة الجوية البريّة التي يشنّها الروس وأصدقاؤهم في حلف المقاومة، والتي ستكون لها الكلمة الفصل خلال الأشهر المقبلة في رسم المعالم الحقيقية لأيّ حلّ سياسي في سورية، ارتباطاً بموازين القوى على الأرض، وكلّ منطقة المشرق.
لا يعني مؤتمر فيينا أننا سنشهد اختراقات قريبة فالجميع يعلم أنّ السعودية قبلت مرغمة المشاركة الإيرانية، فالاشتباك في ذروته بين الطرفين، وليس هناك أيّ أفق في المدى المنظور لبداية مشتركات بين إيران والسعودية، وستبقى القناة العُمانية هي الأكثر أهلية لصناعة أيّة لحظة جدّية لمقاربة الحلول المقبلة وزيارة وزير الشؤون الخارجية لسلطنة عُمان يوسف بن علوي دمشق قد تكون أهمّ من كلّ هذا الفولكلور الذي تشهده فيينا، مع تأكيد أنّ الحضور الإيراني إلى طاولة ليالي فيينا هو عنصر الرّدع لتمرير أيّة صفقة انطلاقاً من الثوابت الإيرانية تجاه سورية، وأيّ حلّ مستقبلي للأزمة السورية لن يخرج عن حدود المبادرة الإيرانية وإنْ اختلفت المسمّيات، فجوهر الحلّ ينطلق من الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2016، وإمكانية أن تشكّل هذه الانتخابات بداية رافعة لحلّ سياسي يقدّم فيه موعد الانتخابات الرئاسية ليرسّخ الرئيس السوري فوزه في هذه الانتخابات، وانتصاره على الإرهاب وداعميه…
مصر والأردن إلى تموضع جديد
شكّل حضور لبنان في فيينا مع العراق ومصر وحتى الأردن الذي يتّجه إلى تموضع جديد دلالة مهمة، فهذه الدول مقتنعة بأنّ القضاء على خطر الإرهاب الذي يستهدفها ويستهدف مجتمعاتها لا يكون إلا بصمود الدولة السورية ومؤسساتها بناءً على ثوابت فيينا الجديدة، وبالتالي هذه الدول الأربع ستشكّل توازناً جديداً مع سورية مقابل التوازن السلبي الذي يُحدثه الآخرون. وهذا دليل على أنّ المنطق الذي كان سائداً في اجتماعات الجامعة العربية ومؤتمرات أصدقاء سورية قد سقط، وأنّ دولاً مثل هذه أصبحت تقول رأيها وتجهر به من دون خوف من أحد.
تقترب مصر من روسيا استراتيجياً في إطار فرض إعادة ترتيب المنطقة على ضوء ما يجري، ولذلك من المهم أن يُلحَظ الحضور المصري في قراءة منفصلة، فقط لأنّ القاهرة، ورغم كلّ تأثير المملكة السعودية في الإدارة المصرية الجديدة، تمتلك عناصر تمايز جوهرية عن السعوديين من المشهد السوري لجهة اقترابها من وجهة نظر موسكو إزاء الحلّ السياسي، وأولوية ضرب الإرهاب ومحاربته على أيّ عنوان آخر.
أتت المشاركة المصرية في موازاة التعاون الروسي – المصري على صعيد العلاقات العسكرية وفي إطار طلب روسي، فموقف القاهرة من الأزمة السورية متطابق مع موقف موسكو. وهناك تنسيق خجول بين المصريين والدولة السورية وإنْ كان المصري لم يعطِه، حتى الآن، الأبعاد الحقيقية ولم يخرجه بعد من العتمة إلى الضوء.
تعتبر روسيا وجود مصر مهمّاً لتليين مواقف دول الخليج، وفي توسيع مروحة المشاورات والأفكار التي من الممكن أن تؤدّي إلى حلّ الأزمة، ولذلك أسقط وجودها إلى طاولة فيينا فرضية أنها تحت العباءة السعودية.
أزعج الحضور المصري المستقلّ القائم بذاته في فيينا السعوديين بعدما كان وجوده في المؤتمرات السابقة في جنيف بمثابة تكملة العدد. والملاحظ، بحسب المتابعين للحركة المصرية في فيينا أنها كانت متقدّمة على الحركة السعودية للمرة الأولى منذ عشر سنوات، ما أوحى بأنّ مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي هي في المراحل التحضيرية لعودتها إلى لعب الدور الإقليمي والعربي في التوازنات، وإلى ترجيح كفة المنطق السوري لمحاربة الإرهاب أولاً، من دون أن تأخذ مواقف علنية وإعلامية قد تؤثّر على مصالحها الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة مع الخليج.
وإذا كانت العلاقات بين مصر وإيران تتراوح منذ العام 1988 بين السيئة والباردة، فلن يكون لها أيّ اتجاه نهائي قبل انقشاع الضباب في الشرق الأوسط. والتقارب المصري الإيراني غير مطروح حالياً، وليس هدفاً من الأهداف الإيرانية، فما يهمّ طهران راهناً هو إيجاد حلّ للأزمتين السورية واليمنية.
يراعي الإيرانيون موقف الرئيس المصري ولا يطلبون تحميل القاهرة أكثر مما تحتمل، وما تقدّمه هو أكثر ما يمكن أن تقدّمه بسبب حاجتها إلى المملكة السعودية، فظروفها لا تسمح لها باتخاذ مواقف متصلّبة، نتيجة وضعها الاقتصادي. وصحيح أنّ طهران يكفيها أن يكون الموقف المصري غير معادٍ لها وللمحور المقاوم، لكنها في الوقت نفسه ترحّب وتدعم أيّ تقارب. ويبدو أنّ مدير مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك يلعب دوراً على صعيد تقريب وجهات النظر بين مصر وإيران. وكانت زيارته القاهرة لافتة، ولقاؤه الرئيس المصري، ومشاركته في اللقاء الذي جمع الرئيس السوري بشار الأسد برئیس لجنة الأمن القومي والسیاسة الخارجیة في مجلس الشوری الإسلامي الإيراني علاء الدین بروجردي في دمشق.