حلب… وساعاتها الشمسيّة أيقونات عراقة
لورا محمود
امتازت حلب عبر تاريخها، بحواضر علمية كثيرة ومعروفة، شأنها في ذلك شأن كل من بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها. واشتهرت من الناحية العلمية بمدارسها وعلمائها، وانتشرت فيها المكتبات العامة في المدارس والمساجد والبيمارستانات والمشافي، وقد بقي كثير من تلك المكتبات حتى يومنا هذا، ووجدت فيها مخطوطات تتعلق بالكثير من العلوم كالحساب وأنواع العلوم الفلكية، كالميقات والتنجيم، وغيرها من العلوم الأخرى لا سيما في ما يتعلق بالوقت والتوقيت.
ورثت حلب علم الفلك البابلي والحثّي والآرامي، ومع تحوّلها إلى حاضرة عربية إسلامية، صارت تهتم بمواقيت الصلوات الخمس، فأقيمت المَزاول جمع مزولة وتعني الساعة ، الشمسية على كل حائط في غالبية مساجدها، كما استعين بالإسطرلاب والآلات الفلكية التي تجمع بين الساعة الشمسية والاسطرلاب، وكانت هذه العناصر بكل ما فيها من تطور وفنون هي الخلاصة التاريخية والحضارية لهذه المدينة العربية، التي تحمل نكهة خاصة تميّزها عن غيرها من مدن العالم القديم. وهناك وسائل توقيت قديمة ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، ونجدها في المباني الأثرية القديمة لمدينة حلب منها الجامع الأموي الكبير، وهو أكبر الجوامع التي أقيمت في حلب وأوسعها، ويقع في قلب المدينة القديمة، ويضم ثلاثاً من وسائل التوقيت التي تعتمد على حركة الشمس، وهي خط الظل المحفور على جدار الرواق الشرقي للجامع، وهو خط مستقيم جنوب شمالي، متى انحسر عنه ظل الجدار القائم فوقه يكون قد حلّ وقت آذان الظهر. وينسب هذا الخط إلى عبد الله الحنبلي الميقاتي الذي حفره عام 1808.
والجدير ذكره أن هذه الطريقة ما زالت تستخدم من قبل القائمين على الجامع حتى الآن لبساطتها في الأيام الشمسية إلا أنها غير دقيقة.
وأيضاً، هناك الرخامة الجنوبية المعلقة على واجهة الرواق الشمالي، وهي أقرب إلى المربع وقد حفرت عليها خطوط متفاوتة الطول بينها زوايا متفاوتة الدرجة على هيئة نصف دائرة كبرى انطلاقاً من دائرة صغرى، وقد ثُبّت مؤشر معدنيّ في مركزها، وحين يقع ظله على أحد الخطوط يكون قد دلّ على توقيت معين.
ويبدو أن الجامع الأموي الكبير في حلب، قد لعب دوراً مهمّاً في تقدم العلوم الفلكية، فقد كانت فيه مدرسة للفلك، إذ كان الشيخ خليل بن أحمد المعروف بابن النقيب 1494 ـ 1563 قد درس في القاهرة علوم الفلك، وعندما عاد إلى حلب اشتغل في تدريس هذه العلوم في الجامع المذكور لمدة طويلة حتى ذاع صيته، فتم استدعاؤه إلى الباب العالي في الدولة العثمانية، وعندما وصل إلى هناك احتفي به ما ساعده في متابعة الدرس والتأليف في علوم الفلك، فأصبحت حلب في عهده مقصد الطلبة للاشتغال بالعلوم الرياضية والفلكية.
وآلة التوقيت الأهم الباقية حتى اليوم في جامع حلب الكبير، تلك الآلة التي تجمع بين الساعة الشمسية والاسطرلاب، وتقع في عرض صحن الجامع، وهي عبارة عن قرص من المرمر الأبيض، قطره 53 ميلليمتراً، مثبت على عمود حامل من الحجر، ويحيط به صف من الأسنان الحديدية عددها 35، وترتسم على سطح القرص عدد كبير من الخطوط المستقيمة والمنحنيات المتقاطعة أو المتوازية أو المتناظرة، كما توجد دائرة صغيرة تشمل ثلاثة مدارات بيضوية حول مؤشر مركزي للدلالة على مواقع البروج الفلكية أيضاً، وهي تشبه في شكلها العام البنية الكلاسيكية للذرة. هذا ومن المحتمل أن تكون للأسنان الحديدية على المحيط فائدة تسهل استخراج المعلومات وللحماية فقط، غطيت الساعة بغطاء نحاسي محدب متقن الصنع، مجهز بقفل يفتح في أوقات محددة، ولا يفتحه سوى «ميقاتية» الجامع.
وقد دلت الجريدة الرسمية في العهد العثماني على وجود موظف مختص يعرف بـ«الميقاتي»، ويتقاضى راتباً شهريّاً لضبط مواقيت الصلاة، إذ يعطي الإشارة لمؤذن الجامع فيبدأ بالآذان، بينما يحمل مساعده علماً أخضر يدور به الجهات الأربع لمئذنة الجامع فيراه مؤذّنو الجوامع الأخرى ليبدأوا آذانهم، ويحمل ذاك المساعد في الليل قنديلاً، وبهذا تنطلق مواقيت الصلاة من الجامع الأموي الكبير إلى الجوامع الحلبية الأخرى.
جامع الطروش
تم بناء هذا الجامع عام 1398، وفيه ثلاث ساعات شمسية، اثنتان جنوبيتان على طرفَي مدخله الشمالي، منحوتتان بشكل ربع دائرة، طول نصف قطرها 75 سنتمتراً، وهي تحوي خمس تدريجات رئيسية وتتجه المزولة الشرقية إلى الشرق، ومهمتها تحديد موعد صلاة العصر، بينما تتجه المزولة الغربية إلى الغرب، وتفيد لتحديد موعد صلاة الظهر.
قشلة الترك
«القشلة» كلمة جاءت من اللغة التركية قيش بمعنى الشتاء وفيها مزولة جنوبية محفورة على حجر مربع الشكل يبلغ قطر المزولة 75 سنتمتراً، وهي أكثر دقة إذ تم تقسيم خطوطها إلى 13 خطّاً ساعيّاً تتضمن أحد عشر خطّاً نصف ساعي.
مكتبة الوقفية
في هذه المكتبة ساعة شمسية، أطلق عليها مخترعها علاء الدين ابن الشاطر الدمشقي اسم «صندوق اليواقيت لأعمال المواقيت»، وأهم أجزائها إبرة مغناطيسية لمعرفة الجهات الأربع، ثم رسوم لمعرفة القِبلة في بعض البلدان، إضافة إلى مزولة شمسية تميل إلى الأفق بقدر عرض البلد، ثم دائرة استوائية كلية يقاس بها الوقت ليلاً ونهاراً، ثم أقواس مختلفة المطابع الفلكية.
جامع المهمندار
تم بناء الجامع عام 1247، وفيه مزولة شمسية حُفِرت على قاعدة المئذنة، وهي ذات نقوش فريدة، غير أن مشيرها مفقود، ولا يمكن رؤية هذه الساعة إلّا أثناء صعود مؤذّن الجامع إلى شرفة المئذنة، ما يدل على أنهم كانوا كثيراً ما يشترطون على المؤذّن ضرورة إلمامه بعلوم الفلك وكيفية استخراج المواقيت من خلال المزاول.
ساعة باب الفرج
ومع انحسار المواقيت الشرقية وهيمنة التوقيت الغربي، وُضع حجر الأساس لمنارة ساعة حلب المعروفة بـ«ساعة باب الفرج»، أحد أبواب حلب الأثرية السبعة، وذلك عام 1898، وقد تبرع أبناء حلب من ذوي الثروة لعمارتها بنحو 600 ليرة ذهبية عثمانية. وتفردت بوجوهها الأربعة، إذ خُصّص وجهاها الشمالي والجنوبي للتوقيت الغربي، والوجهان الشرقي والغربي للتوقيت الشرقي.
وهذا كله إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على أن الاهتمام بالوقت والتوقيت أضفى على حياة الحلبيبن قدراً كبيراً من الحيوية الحركة والازدهار والتقدم، بشكلٍ لا نجد له مقاربة في باقي الحضارات الأخرى.