العلاقات السوريّة ـ اللبنانيّة والروابط التاريخيّة

العميد ناصر أيوب

إنّ وحدة الكلمة تبدأ قبل السلطة والحكم… والكلمة التي توحّد هي التي ترفع من شأن الوطن. لا هم لـ«إسرائيل» وعملائها في المنطقة والعالم سوى شقّ الصف العربي وتشتيت قواه الفاعلة. ولكن ما دام الصف العربي موحداً بين لبنان وسورية، فالأمة بخير والتاريخ سيسجل في يوم مقبل على أنصع صفحاته مآثر هذا الدور المشرّف الذي قامت به المقاومة ضدّ الإرهاب في سورية. فالعلاقات السورية ـ اللبنانية التي تضرب بجذورها عمق الأرض والتاريخ والجغرافيا باتت تشكل نموذجاً للعلاقات العربية، ليس لأجل تعزيز المسيرة الواحدة للبلدين فحسب، بل أيضا لأنّ علاقات الأخوّة والتعاون وجدت مرتكزاتها الحقيقية والعملية على أرض الواقع، وجسّدت بإرادة صلبة وثقة متبادلة تطلعات الشعب الواحد في البلدين على أساس وقائع القربى والدم وتعمّدت بالتضحيات ونكران الذات والوقوف بثبات لإعلاء كلمة الحق والعدل، وتحقيق الأماني المشتركة لإعلاء الشأن القوميّ والعربيّ كلّه.

عندما ننظر الى تاريخ لبنان من منظار السكان وأبناء المنطقة نجد أنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ سورية، فنحن لم نبدأ التعامل معاً ككيانين منفصلين إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى. ويتحدث علماء التاريخ عن طبيعة التضاريس الوعرة والمنعزلة لجبل لبنان، ما جعله ملاذاً للناجين من المنشقين والطوائف المنشقة من المسيحين والإسلام عن الإمبراطوريات البيزنطية والعربية والمملوكة والعثمانية.

بعد الحرب العالمية الأولى بسطت فرنسا بموجب الانتداب الذي نص عليه ميثاق عصبة الأمم سيطرتها على منطقتي سورية ولبنان، اللتين كانتا تشكلان في ما مضى وحدة سياسية واحدة تحت مظلة الإمبرطورية العثمانية، وعمدت فرنسا الى شطر هذه الوحدة السياسية الى إمارتين استعماريتين منفصلتين بعدما قامت برسم حدود جديدة من خلال زيادة مساحة لبنان شكلاً.

إنّ العلاقات بين سورية ولبنان كانت ولا تزال علاقات متصلة متشابكة منذ أقدم الأزمنة، وهذا ليس بالأمر الغريب أو الاستثنائي، فطبيعة البلاد الجغرافية والبشرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية تتطلب ذلك وتقتضيه بالضرورة الحتمية.

يشكل لبنان نافذة سورية على البحر ويمثل منه موقع الخاصرة، كذلك تشكل سورية الامتداد الجغرافي الطبيعي للبنان وسوقه التجارية الكبيرة. صحيح أنّ العلاقات اللبنانية ـ السورية ارتسمت في جانب منها من مواقع السيطرة الاستعمارية وتقاسم مناطق النفوذ واقتسام الغنائم بين فرنسا وانكلترا في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن الصحيح أيضاً أنّ جانباً كبيراً من تلك العلاقات كانت تمليه مصالح الناس في كلا البلدين في سعيهم الدؤوب إلى تأمين حاجاتهم وتوفير مقوّمات استمرارهم وتطوّرهم على الصعيد الاقتصادي.

أثناء فترة الانتداب الفرنسي، لم تتغيّر هيكلية الاقتصاد الوطني تغيّراً جذرياً رغم الاهتمام المتزايد بقطاع التجارة وإهمال الزراعة، إذ ظلّ الانتاج الزراعي يلعب دوراً بالغ الأهمية في مرحلة ما بين الحربين وحتى الاستقلال ويشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني. أما الصناعة فكانت في سورية ولبنان قبل الحرب العالمية الأولى عبارة عن صناعات تقليدية يدوية حرفية بسيطة، وشهدت الصناعة في كلّ من البلدين خلال فترة ما بين الحربين نموّاً لا يُستهان به، بخاصة في ما يتعلق بتوظيف رساميل محلية وأجنبية في صناعات الغزل والنسيج ولا سيما القطن والصوف والحرير.

في أواخر الثلاثينات ومطلع الأربعينات، خصوصاً بعد انفجار الحرب العالمية الثانية، تحوّل الإنتاج الرأسمالي في معظم الدول الأوروبية ومنها فرنسا الى إنتاج حربي بالدرجة الأولى، ما أفسح المجال أمام نمو الصناعات السورية ـ اللبنانية وتطوّرها وأهمها صناعة الخضار والفواكه والمعجنات والتبغ والتنباك وزيت الزيتون والنسيج.

كان لتطور وسائل النقل وشبكة الطرق والمواصلات الدور الأكبر الذي أدى الى تطوير التجارة بين سورية ولبنان من ناحية، وبينهما وبين باقي دول المنطقة والعالم من ناحية أخرى. وأدى الازدهار التجاري إلى تحويل بيروت مركزاً تجارياً مهمّاً يعتمد كثيراً على حركة مرفأ بيروت الذي تستورد سلعها عن طريقه.

بدأت محاولات الوحدة بين سورية ولبنان، لا سيما بأهميتها الاقتصادية، عبر اتفاقية عام 1944 التي حُدّدت فيها المصالح المشتركة بين البلدين وإقامة مجلس أعلى لمتابعة المسائل كافة المتعلقة بالتعاون الاقتصادي والاجتماعي واسمه «مجلس الأعلى للمصالح المشتركة» ونصت الاتفاقية على أن سورية ولبنان يؤلّفان منطقة جمركية واحدة تنتقل البضائع ضمنها بحرية كاملة ومن دون أي ضرائب أو رسوم تحت إدارة جمركية واحدة.

عام 1955 تم التوقيع على اتفاق الوحدة الاقتصادية اللبنانية – السورية ويتضمّن العلاقات الاقتصادية وتوطيدها وقيام وحدة اقتصادية بصورة تدريجية تضمن حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال والعمل والإقامة والتملك واستعمال النقل والمرافئ والمطارات. وبتاريخ 25/3/1953 وقّع الاتفاق التجاري بين لبنان وسورية وعام 1968 اجتمعت اللجنة السورية اللبنانية المشتركة وعدّلت الاتفاق الذي تضمن إعفاء بعض المنتجات الصناعية السورية واللبنانية من الرسوم الجمركية وتسهيل حركة الترانزيت. وبتاريخ 22/5/1992 تم التوقيع على معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي، وتشمل النواحي الزراعية والتصنيعية وحركة الترانزيت

ومبادلات مصادر الطاقة في الاتفاقية وتؤكد على ضرورة التعاون الاقتصادي في إطار سيادة البلدين واستقلالها. ولم تبدأ النظرات المختلفة الى المصالح المشتركة إلاّ عام 1949 وأدت في نهاية المطاف الى إنفصال هذه الوحدة واتباع كل دولة سياسية إقتصادية مختلفة خاصة بها.

أما على صعيد الجغرافيا فيشكل لبنان 200 كلم طول الخط الساحلي السوري مساحته الإجمالية10452 كلم ورسم الحدود مع سورية خلق رابطاً جغرافيا بدءاً من الشمال على البحر المتوسط مروراً ببقعة سلسلة جبال لبنان الشرقية امتداداً الى الجنوب 355 كلم حتى نقطة الالتقاء مع حدود فلسطين المحتلة 75 كلم حتى البحر.

أما على صعيد الروابط الاجتماعية فالعائلات السورية واللبنانية هي عائلات البيت الواحد وتحمل الاسم نفسه وتكاد لا توجد عائلة في أحد البلدين ليس لها أقارب في البلد الآخر. وخلال أتون الحرب الأهلية في لبنان وأعنف جولات الاقتتال، ترك عشرة آلاف لبناني منازلهم من لبنان وحلّوا ضيوفاً على أهلهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأبناء عمومتهم في سورية.

أكد الرئيس الأسد على وجود دولة لبنان إلى جانب دولة سورية، غير أنه جعل الشعب شعباً واحداً تصهره بوتقة واحدة، فالعلاقة السورية ـ اللبنانية ليست سوى شهادة عظمى تؤكد وحدة الروح في قلبين، بل هما جسدان في روح واحدة. وأتت الحوادث على مدى عشرين عاماً لتحمل في طياتها الشهادة بأنّ بيروت ودمشق اسمان في مسمّى واحد. وعندما مرّ لبنان في محنته عرف شقيقه ورفيقه وتوأمه… والصديق عند الضيق، فهل ثمة ضيق أشدّ وأقسى من هذا العدوان الصهيوني الآثم والعدوان الإرهابي التي تصّدره بعض البلدان العربية المتصهينة لتدمير الرابط القومي العربي بين سورية الأسد ولبنان المقاومة.

كانت أميركا تخطط لتقسيم لبنان وجاء رسولها كسينجر يعرض على الرئيس سليمان فرنجية مشروعاً ينقذ فيه المسيحيون من المسلمين بفتح كل الطرق أمامهم براً وبحراً وجواً وبكل ما تملك الولايات المتحدة من وسائل. ووقف المرحوم الرئيس سليمان فرنجية وقفة المواطن العربي منهياً المقابلة وقائلاً لمحدثه: «هل تظن أننا أعداء المسلمين أو أن هم المسلمين أعداؤنا؟ نحن ليس عندنا سوى عدو واحد هو «إسرائيل» ومن يساندها ويدعمها و يؤازرها». كان الرئيس فرنجية يتحدث بحكمة سليمان وصدق الإنجيل والقرآن، ويجسد مضمون الآية الكريمة «ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، وتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون» سورة المائدة .

ما من شك في أنّ العلاقات بين البلدين أضحت متينة وراسخة إلى درجة يستحيل معها النيل منها والمسّ بها بعد ما شهدته طوال الأعوام الماضية من تنسيق وتشاور في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، متجاوزة أي علاقة أخرى بين دول وأخرى فالعلاقات الأخوية السورية – اللبنانية تعمّدت بالدم وبالتضحيات الجسيمة وبالعرق والجهد المشترك الذي حافظ على لبنان حراً قوياً في مواجهة المؤامرات، فهي علاقات تطوّرت وتعمّقت بين أبناء الشعب الواحد في البلدين وتعززت بموقف موحد يخدم المصلحة القومية العربية ووحدة المصير المشترك الذي يتقاسم فيه الجانبان رغيف الخبز، معبّرين عن تطلعات موحدة مشتركة. هذه العلاقات الأخوية تزاد رسوخاً يوماً فآخر. وفضلاً عن وشائج القربى والتاريخ والجغرافيا فإن هذه العلاقات تقوم على التشاور الصادق والآراء الصائبة والثقة المتبادلة، ويثق البلدان بأنّ ما يصيب لبنان يصيب سورية وما يصيب سورية يصيب لبنان، وسورية بقيادة رئيسها الأسد ستبقى وفيّة على عهدها مع المقاومة في لبنان، تدافع عن سلامته ووحدة أراضيه مهما غلت التضحيات، ما دامت هذه التضحية في سبيل الشقيق وفي سبيل المصلحة القومية العربية.

إنّ العلاقات بين البلدين لم تبدأ مع تاريخ الدخول العسكري السوري إلى لبنان، بل تسبق ذلك بعشرات الأعوام إن لم يكن المئات.

إن حجم هذه العلاقات ومستواها فرض على المستعمر الاعتراف بها وتأسيس هيئة اسمها «مجلس المصالح اللبنانية ـ السورية المشتركة».

إنّ هذه العلاقات المتجذّرة لن تنتهي بخروج القوات السورية من لبنان، بل قد تفيد حيويتها أكثر بعد الخروج العسكري.

يخطئ اللبنانيون حين يخضعون مستقبل العلاقات بين البلدين لموقفهم السياسي من طبيعة الحكم في سورية أو تعامله مع القوى السياسية اللبنانية، لا سيما أنّ الدم المقاوم السوري ـ اللبناني امتزج في سبيل هدف واحد وهو إفشال المخططات الأميركية «الاسرائيلية» وبعض الدول العربية العميلة على الأرض اللبنانية ـ السورية، وضدّ الشعب الواحد في لبنان وسورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى