الانتخابات التركية تؤسّس «ديمقراطية الخوف»

رضا حرب

عندما يحقق المستبدّ نصراً ملحوظاً يرتفع منسوب «جنون العظمة وجنون الارتياب»، النتيجة الحتمية فوضى ومزيد من الاستبداد.

خلافاً لتوقعات الخبراء بالشؤون التركية ومراكز استطلاعات الرأي، فقد حقق أردوغان نصراً غير طبيعي في ظلّ ظروف غير طبيعية وحملات انتخابية غير طبيعية. يجب أن نعترف أنّ الرجل يدرك تماماً كيف يفكر الأتراك، فاستُغلّ الأمر أحسن استغلال وفرض نفسه وفق معادلة «أنا الدولة والدولة أنا». وُضع الشعب التركي أمام خيارين أحلاهما مرّ «أنا أو الفوضى»، من الطبيعي أن يختار الشعب التركي الاستقرار، فهل هو الخيار الصحيح؟

قبل الإجابة على السؤال، دعونا نسلّط الضوء على أهمّ العوامل التي أعطت أردوغان هذا النجاح غير المتوقع:

عامل التخويف: خلال الأشهر الخمسة التي سبقت الانتخابات، أعلن أردوغان الحرب على حزب العمال الكردستاني، وتمّ الاعتداء على أكثر من 400 مركز لحزب الشعوب الديمقراطي، ثم في أوج الحملات الانتخابية جاء تفجير سوروش الذي أدّى إلى مقتل وإصابة المئات من مؤيدي حزب الشعوب الديمقراطي. وتتويجاً لـ»ديمقراطية الخوف» هدّد أحمد داود أوغلو المعارضين بعودة سيارات طوروس البيضاء، لتجوب شوارع جنوب شرقي تركيا 1 هذا النمط من التهديد غير مسبوق إلّا في ظلّ أعتى الديكتاتوريات.

كلّ ما تقدّم كان بمثابة رسائل للأكراد تخيّرهم بين القتل وأردوغان. تيقن الأكراد من أنّ أردوغان قادر ومستعدّ لأن يستخدم كلّ وسائل العنف لتحقيق النصر في المعركة الانتخابية. كأيّ حزب عقلاني وحريص على أرواح الناس، اضطر حزب الشعوب الديمقراطي إلى إلغاء المهرجانات الانتخابية حتى لا يتعرّض الناس لعمليات قتل جماعية تُنسب لـ»داعش» بشكل أو بآخر.

استخدم أردوغان وحزبه «القتل والتهديد بالقتل» كأفضل وسيلة لاستقطاب الخصوم الخائفين أو إبعادهم عن صناديق الاقتراع، الأمر الذي يمكن أن يدفعهم إلى حمل السلاح ولو بعد حين. هذا الأمر لا يدركه التفكير المتوحش لأردوغان.

احتكار الإعلام: في التعاطي مع خصومه ومنافسيه، طبّق المقولة المنسوبة للملك لويس الرابع عشر «أنا الدولة والدولة أنا» بحذافيرها لتشكل السلوك الديكتاتوري لأردوغان. كل من خالف أو عارض قراراته ولو بكلمة بات ملاحقاً بتهمة الخيانة. أردوغان ورجال حزبه خط أحمر من غير المسموح تجاوزه.

لأنّ الدستور التركي ينص على وضع الرئيس فوق الخلافات السياسية، استخدم أردوغان موقعه كي يرسم استراتيجية «الخوف» لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وسخر كلّ قدرات الدولة لقمع الإعلام، فشنّ حملة غير مسبوقة ضدّ الإعلام المعارض والمستقلّ. تعرّض إعلاميون من المعارضة والمستقلين للاعتقال، وأغلق عدد من الصحف ومحطات التلفزة وهدّد بإغلاق المئات من المدارس التابعة لحليفه السابق غولن. فضلاً عن ذلك، سخَّر الإعلام الوطني الذي تملكه الدولة لخدمته وخدمة حزبه في مخالفة دستورية فاضحة.

الاستقطاب المذهبي والإثني: في إشارة إلى أن زعيم الحزب الجمهوري العلماني من أتباع المذهب العلوي، كان إردوغان يخاطب السُّنة لإثارة الحماسة المذهبية لدى المتديّنين، وهو الأمر الذي أدّى الى هذا الإقبال غير المسبوق في أي انتخابات تركية. وفي حربه على الأكراد، كان أردوغان يخاطب مؤيدي الحزب القومي بأنه أشدّ تعصباً للقومية التركية. نجح في استقطاب مؤيدي الحزب الإسلامي الآخر حزب السعادة، ونسبة لا بأس بها من مؤيدي الحزب القومي. لكن يجب الالتفات الى أن هذا الاستقطاب المذهبي والإثني كشف حدّة الخلل بين مكونات المجتمع التركي.

حقق أردوغان مبتغاه، ماذا بعد؟

في السياسة الخارجية، يعتقد بعض المراقبين أنّ اردوغان بموجب التفويض الشعبي سيتشدّد في مواقفه تجاه الأزمة السورية، خصوصاً المتعلقة بإقامة المنطقة العازلة، الأمر الذي سيدفع المملكة العربية السعودية الى مزيد من التشدّد خاصةً في ظلّ حكم الصبية الذين وضعوا مملكة القهر في وضع لا تُحسد عليه.

أردوغان ليس في وضع يسمح له بتجاوز الخطوط الحمر التي وضعها الروس، ومن غير المسموح له توريط حلف الناتو في طموحاته. ما أشار له الأميركيون حول اشتعال الحرب في البلقان بسبب اللاجئين سيردّ الروس في شرق أوكرانيا وجنوب شرقي تركيا، والصواريخ الأميركية في تركيا تقابلها صواريخ روسية في اللاذقية. تراجع روسيا في سورية ليس على جدول أعمال بوتين ولا على جدول أعمال إيران أو المقاومة.

في السياسة الداخلية، بعد يومين على فوز حزب العدالة والتنمية، قامت أجهزة الأمن التركية بحملة اعتقالات ضدّ أتباع غولن لأنّ أردوغان اعتبر نجاحه تفويضاً يسمح له باحتكار السلطة من موقعه الرئاسي كأمر واقع حتى لو فشل في إجراء تغيير دستوري من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي، ومن المتوقع أيضاً أن يستخدم هذا التفويض في إحكام قبضته على الجيش والأجهزة الأمنية والإعلام وضرب خصومه بيد من حديد. من المؤكد أنه سيتشدّد في تعامله مع الخصوم لتثبيت هذا النمط من «الديمقراطية» التي لم يشهدها العالم منذ صعود أدولف هتلر – «ديمقراطية الخوف».

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية

www.cgsgs.com

1ـ في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بالأخص منذ 1984 كانت أجهزة الأمن التركية تستخدم سيارات «طوروس البيضاء» في عمليات الخطف للمعارضين، ولا سيما الأكراد ونقلهم الى أماكن مجهولة. وإلى حدّ يومنا هذا لم يعرف أحد مصيرهم، أو بالأحرى لا أحد يعرف أين دُفنوا. يقول الصحافي جتينار جتين: «إنّ كلّ من خرج من منزله واستقل تلك السيارة، لم يعُد إليه مرة أخرى»، في إشارة الى مقتله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى