تقرير

كتب ماثيو سبينس لـ«واشنطن بوست» الأميركية:

تهيمن روسيا على النقاش القائم حول سورية في الفترة الأخيرة. وكانت لمسة الرئيس فلاديمير بوتين البارزة المفترضة، لجوؤه إلى استخدام القصف التكتيكي من أجل استعادة زمام المبادرة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ومحاولة ردّ الولايات المتحدة على أعقابها هناك. لكن روسيا تشكل بالكاد النموذج المناسب الذي تتطلع الولايات المتحدة إلى استلهامه في سورية. بدلاً من ذلك، ثمة منافس آخر للولايات المتحدة، هو الذي يعرض منظوراً استراتيجياً أكثر قيمة في هذا الخصوص… الصين.

قبل ثلاث سنوات، كنتُ قد دعيت إلى بكين لتمثيل وزارة الدفاع الأميركية في حوار استراتيجي حول منطقة الشرق الأوسط. وكانت الصين قد تهربت تاريخياً من الاضطلاع بأي دور فعال في الشرق الأوسط، مفضلة ترك خوض المغامرات في الصحراء للولايات المتحدة وحلفائها. ولكنها أصبحت تعرض اهتماماً متزايداً بالمنطقة في الفترات الأخيرة، وتسعى إلى شراكة مع الولايات المتحدة في هذا الإطار، والتي تكون قائمة على أساس ثلاثة مبادئ توجيهية لها تداعيات على دور الولايات المتحدة نفسه.

أولاً، ركزت بكين بشكل ضيق على مصالحها الجوهرية في المنطقة: الوصول إلى موارد الطاقة وتأمين ممرات ملاحية مستقرة للحفاظ على التجارة العالمية. وقد ركز كل نقاش خضناه تقريباً على أي من الأحداث هي التي تهم وأيها لا تفعل في ضوء هذه المصالح. وتعتقد الصين أن منطقة الشرق الأوسط لا تحتل سوى عدد قليل من المربعات على رقعة الشطرنج العالمية.

ثانياً، بدا القادة الصينيون مسكونين بهاجس استدامة أعمالهم في المنطقة ومخاطر التورط. وأشاروا بوضوح إلى ملايين الدولارات التي تنفقها الولايات المتحدة يومياً على قواتها البرية في العراق وأفغانستان، وفضلوا إنفاق موارد الصين على مواجهة تحدياتها الداخلية المتصاعدة، وتجارتها العالمية وأجندتها الاقتصادية، وعملها العسكري في منطقتها. وتُركت الولايات المتحدة ودول أخرى في الشرق الأوسط لتحمل عبء الكثير من النزاعات، في حين لعبت الصين من الخارج لضمان متابعة مصالحها.

أخيراً، نظر الصينيون من دون عواطف ولا انفعال إلى الجدوى الحقيقية من أصدقائهم وأعدائهم في المنطقة. وشنوا هجوماً حاداً على صناع السياسة الأميركيين بسبب معارضتهم الرئيس السوري بشار الأسد من دون امتلاك رؤية واضحة لمن سيحل مكانه، لكنهم سارعوا مع ذلك إلى ملاحظة أن وجهة نظرهم ستتغير إذا ساهم وجود الأسد في خلق قدر من عدم الاستقرار أكبر مما ينتجه وجوده خارج السلطة من الاضطراب. وكانوا يعيدون تقييم افتراضاتهم حول هذه المسألة بشكل متكرر.

لكن الولايات المتحدة ليست الصين، بطبيعة الحال. ولا ينبغي لها أن تطمح إلى أن تكون مثلها. فلدى واشنطن مجموعة واسعة من المصالح والمسؤوليات العالمية أكثر مما لدى بكين. ولا تقود الولايات المتحدة بقوتها فقط، إنما بقيمها وبمثالها أيضاً. وهي لا تملك ترف عدم التصرف كقوة عالمية، ولا ينبغي لها أن تفعل. ويجب على الولايات المتحدة أن تستمر في حث الصين على الاضطلاع بدور أكبر وأكثر مسؤولية في القيادة الدولية، بما يتناسب مع وضعها ومكانتها ـ سواء في منطقة الشرق الأوسط أو خارجها على حد سواء.

أما وقد قيل ذلك، فإن وجود التزام عسكري مفتوح النهاية للقوات البرية الأميركية يمكن أن يكون هدية للصين، فضلاً عن منافسي الولايات المتحدة الناشئين الآخرين في مختلف أنحاء العالم. فمن شأن هذه الخطوة أن تتعهد أمن طاقة الأمم الأخرى وأن تقيد موارد الولايات المتحدة التي تمس الحاجة إليها في الأماكن الأخرى في العالم. كما أنها سنتقص أيضاً من الجهود المبذولة لإعادة التوازن للموارد الأميركية في آسيا، سواء كان ذلك في إطار توسيع التجارة أو تقوية الالتزامات الأمنية الحرجة. وليست الضربات الجوية الروسية المتزايدة في سورية سوى الفصل الأحدث في سلسلة طويلة من الأخطاء والتشابكات السائدة في الشرق الأوسط. وسيكون من الخطأ الكبير أن تسمح واشنطن لموسكو باستدراجها إلى تورط عسكري أعمق في المنطقة، من دون نقطة نهاية وغايات واضحة في الأفق.

بدلاً من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تزن غاياتنا بدقة، وأن تدرس بعناية سبل خطواتنا المقبلة في منطقة الشرق الأوسط وأدواتها. وهذا يعني إلقاء نظرة طويلة على فكرة القيادة، في حين يتم تحقيق التوازن بين التزامات الولايات المتحدة في الداخل والخارج.

أولاً، يتعين على الولايات المتحدة النظر في الإجراءات من خلال عدسة صلبة من مصالحها الجوهرية في المنطقة: منع تنظيم «داعش» من شن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها الحفاظ على استقرار حلفائنا المقربين، خصوصاً بينما يتزايد تدفق اللاجئين وحماية الوصول إلى موارد الطاقة. وعندما تتعرض هذه المصالح الأساسية للتهديد، فإنه يجب على الولايات المتحدة أن تتصرف مباشرة. ولتحقيق الأهداف السامية الأخرى التي تشكل جزءاً جوهرياً من مصالحنا الأساسية أيضاً، فإنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل من خلال حلفائها ووكلائها.

ثانياً، يجب على واشنطن التركيز على ما يمكن أن تسهم به بشكل فريد. وتشكل الضربات الجوية الدقيقة، وجمع المعلومات الاستخبارية، والقدرة على النقل الجوي وقوات العمليات الخاصة، كلها أمور يستطيع الجيش الأميركي أن يقوم بها أفضل من أي طرف آخر. أما في ما وراء ذلك، فيجب التركيز على بناء قدرة الحلفاء، مع الاعتراف بأن هذه العملية ستسير بطريقة متقطعة وغير منتظمة. يجب أن تقوم قوات العمليات الخاصة الأميركية بتدريب القوات الخاصة الأردنية والتركية واللبنانية والإماراتية والسعودية للقيام بالأعمال المباشِرة لمكافحة الإرهاب. هذه هي الخطوات اللازمة لصون الأمن الإقليمي على المدى الطويل.

ثالثاً، يجب على الولايات المتحدة أن تقود من خلال الدبلوماسية الدفاعية والاقتصادية. ويجب أن يبقى الجيش الأميركي هو مزوّد الاختيار للدفاع في المنطقة، ما يعني السعي بقوة إلى بيع المعدات العسكرية الأميركية إلى «إسرائيل» وحلفائنا في الخليج، بحيث لا تحل المعدّات الأوروبية والصينية والروسية محلها. كما ستساعد زيادة انخراط الولايات المتحدة الاقتصادي والدبلوماسي أيضاً في الحصول على أرضية في المناطق التي تتقدم فيها الصين بسرعة.

على العكس من روسيا، تنطوي الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط على تحقيق التوازن بين الواجبات والمتطلبات في جميع أنحاء العالم، وعلى مقاومة الإصلاحات قصيرة المدى التي لا تكون لها نهاية في الأفق. وهذا أفضل حتماً من تهور موسكو قصير النظر، ولكن أياً من النهجين لا يناسب الدور الفريد الولايات المتحدة. يجب على الولايات المتحدة أن تقود عن طريق الدفع من أجل التغيير الآن، بينما تحافظ على الانضباط اللازم لفهم الكيفيات التي ستسفر عنها أعمالنا على المدى الطويل.

مساعد شؤون الدفاع لسياسة الشرق الأوسط منذ عام 2012، أستاذ في «معهد جاكسون للشؤون العالمية» في جامعة «ييل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى