عندما يتحوّل الاعتقال والتعذيب والسجن إلى مدرسة فكرية

لبيب ناصيف

في نبذات سابقة، تحدّثنا عن التعذيب الذي طال الرفقاء الذين شاركوا في الثورة الانقلابية، وبعضهم مضى تحت التعذيب أو صفّي في أمكنه مجهولة، وتحدثنا في النبذة بعنوان السجن ـ المدرسة 1 عن كيف تحوّل السجن في القبه «طرابلس» ثم في القلعة» بيروت» إلى مدرسة، ووحدات إنتاج.

من كتاب «سفينة حياتي» للأمين منير خوري نورد معلومات فيها عبر وأمثولات، وزاد للمستقبل.

التعذيب

«… بعد الاستقبال الرسمي، أودعوني أحد»القواويش»مع حوالى أربعين موقوفاً، تعرفتُ إلى عدد غير قليل منهم. أما ما لفتني فور دخولي ذلك القاووش، فهو شاب محطّم الجسد، يسيل الدم والقيح من فمه ورأسه وعينيه وأذنيه، مشهد لن أنساه طيلة حياتي».

«كان بعض الرفقاء يقومون بمساعدته بين الحين والآخر في محاولة للتخفيف من آلامه التي كان يكتمها بصبر وجلد نادرين، من دون أن يتفوّه بكلمة آه أو أي نوع من أنواع التذمّر. ولما سألتُ بعض الشباب، مَنْ هذا الذي أراه؟ ابتسم أحدهم، وقد عرفني، ثم قال همساً: «بعد ما شفت شي يا حضرة الأمين. هذا المشلول الذي تراه أمام عينيك الآن هو واحد من العشرات الذين ينالون حصتهم من هذه الوحشية يومياً». كان ذلك الشاب، شبه المشلول، هو جبران الأطرش الذي اشتهر بطاقته وقوته على تحمل العذاب بصبر وجلد لا مثيل لهما».

في المحكمة الأمين محمد بعلبكي

«في 11 شباط بدأ الأمين محمد بعلبكي دفاعه بالتعليق على الوثيقه المزوّرة التي عممّت على وزارة الخارجية، والتي بدَؤُها حرفياً: «من آمن بالإسلام فهو كافر، ومن آمن بالمسيحية فهو أكفر، ومن آمن بلبنان، فهو ليس منّا» قائلاً: «نحمد الله على أننا برئنا من هذه التهمة، ونحمد الله أيضاً على أن حضرة المدعي العام أكد أن تلك الوثيقة المزوّرة التي نسبت إلينا تتحدّث عن الكفر بالأديان ولبنان، لا وجود لها في ملف الدعوى. ولكننا، بكل إخلاص كنا نتوقّع من الحق العام في لبنان أن يكون حقاً عاماً لا حقاً خاصاً، أن يلاحق الذين دبّروا تزوير هذه الوثيقة ونشرها في بعض الصحف وعلى أبواب الكنائس والجوامع، بل توزيعها أيضاً بواسطة سفارات لبنان في الخارج وعلى جميع أقطار المعمورة». ثم انتقل إلى موضوع مشاركته في المحاولة الانقلابية الفاشلة، فقال: «أحب في مطلع هذا الباب أن أذكر لكم وللرأي العام كله أن رئيس الحزب القومي الاجتماعي الدكتور عبدالله سعاده لم يكن وحده المسؤول عن اشتراك الحزب في محاولة الانقلاب الفاشلة، وإنما أقول أننا نشاركه في ذلك، نحن معظم المسؤولين في مؤسسات الحزب، وأنا منهم».

«ورداً على الاتهام بالتآمر على لبنان قال بصراحة وجرأة: «المتآمر هو من لا يتآمر على هذا النظام».

وأيضاً ردّاً على تبجّج البعض بالولاء للبنان قال: «ليس كل من قال يا رب يدخل ملكوت السموات».

وردّاً على الذين يأخذون علينا تحيّتنا السورية، ذكّر الأمين بعلبكي بما قاله نسيب المدعي العام اللبناني الأستاذ نبيه البستاني بأن علماً من أعلام النهضة الفكرية والعلمية، ومترجم الالياذة، عنيت به سليمان البستاني قال في حنينه إلى وطنه سورية: «ذكرت لبنان وهاج فؤادي العاني، لذاك العرين. فهل ترى يفسح آني الأجل، حتى به تغمض المقل وأرض سورية محط الأمل».

الرفيق موسى مطلق ابراهيم

«أما الرفيق موسى مطلق ابراهيم، الفلسطيني الجنسية، «المحمدي الديانة»، العميق الثقافة، فصريح وصراحته ساطعة وقاطعة كحدّ السيف، أذهل رئيس محكمة التمييز إميل أبو خير، عندما استشهد في دفاعه بما ورد في الإنجيل حول قصة السامري الصالح. وكان ذلك ردّاً على ما كان يثيره النائب العام نبيه البستاني أنّ الذين اشتركوا في المحاولة الانقلابية هم من الغرباء عن لبنان.

وقف الرفيق موسى مطلق ابراهيم وتوجّه إلى رئيس المحكمة قائلاً: «ضرب إله من بلادي مثلاً، وهو يعلّم الناس على المواطنيه الصالحة قال: «كان لاوي مسافراً من أريحا إلى أورشليم، فصادفه بعض اللصوص، فسلبوه دابته وما كان معه وضربوه وجرحوه، وأوثقوه، وتركوه ملقى على قارعة الطريق. فمرّ به لاوي وجاز عنه ولم يكترث به، ومرّ به صدوقي فجاز عنه أيضاً ولم يكترث به، ومرّ به فريّسي فجاز عنه ولم يكترث به. وأخيراً مرّ به سامري فنزل عن دابته وفكّ وثاقه ومسح جراحه بالزيت والخمر، وأركبه على دابته ومضى به إلى خان على الطريق. وهناك أنزله وأعطى صاحب الخان دينارين أجرة بقائه عنده حتى يشفى.

وقال متسائلاً بعد ذلك: «أيهم أقرب إلى اللاوي الجريح؟ فقالوا الذي عمل معه خيراً»، ثم أنهى كلامه: سيدي الرئيس: «في أثناء فتنة لبنان قاتلت دفاعاً عن لبنان، وقتل أخي 2 إلى جانبي وسلاحه في يده. وأنا لا يضيرني ولا يضير الحزب أن أكون سامريّاً من فلسطين ما دام الحزب جعل مني مواطناً صالحاً».

روى لي الأمين ميشال خوري الذي كان شارك في الثورة الانقلابية وكانت مهمته الإفراج عن الأمين شوقي خير الله الذي كان موقوفاً في ثكنة الفياضية 3 أن الأمين عبد الله سعاده وقف بعد انتهاء الأمين موسى من كلمته وحيّاه، رافع اليدين.

السجن المدرسة

«في نهاية شهر شباط 1964 نقلنا إلى سجن طرابلس في حي القبة حيث أمضينا ثلاث سنوات سُجلت فيها أروع التحديات الإيجابية. كان عددنا مئة وخمسين تماماً، أما الذين صدر عليهم الحكم بالإعدام فكانوا ثمانية: العسكريون الثلاثة: شوقي خير الله، فؤاد عوض، وعلي الحاج حسن. أما المدنيون فكانوا خمسة: عبد الله سعاده، محمد بعلبكي، بشير عبيد، جبران الأطرش، ومحسن نزهه. توزعوا جميعهم على زنزانات سجن الرمل.

في مذكراته «أوراق قومية» ذكر الدكتور سعاده في حديثه عن السجن في طرابلس تحت عنوان «السجن المدرسة وكيف حوّلنا ذلك السجن المجزرة، إلى «السجن المدرسة» إلا أن الصورة التي ذكرها الدكتور سعاده ظلّت ناقصة ولو أنها تعطي فكرة صادقة عما سماه «السجن المدرسة»، مع بعض الثغرات هنا وهناك تستحق الإشارة والتوضيح. وهنا لا بد لي من العودة قليلاً إلى الوراء، أي قبيل اعتقالي عندما كنت، كما ذكرت سابقاً، خبيراً إقليمياً للأمم المتحدة في شؤون التنمية الريفية بحكم عملي يومها، كانت فلسفة النهوض بالمجتمعات المحلية الريفية المتحدات الريفية وبالقرى خصوصاً، تشدّد على أهمية الاهتمام بالشؤون الاقتصادية ـ الاجتماعية وضرورتها لكل من هذه المتحدات، وتحويلها إلى خلايا منتجة عملياً وعلى حد تعبير الزعيم سعاده إلى مجتمعات إنتاجية «فكراً وصناعة وغلالاً». وكان هاجسي منذ اعتقالي في ثكنة الأمير بشير في بيروت، وأنا أشاهد عدداً كبيراً من الرفقاء السجناء منهمكين في حياكة السلع الخرزية الملونة في شكل بدائي، كيف نستطيع رفع هذا العمل البدائي إلى مستوى راقٍ؟

وعندما تسلمت مسؤولية رفقائنا المساجين في طرابلس من الأمين مصطفى عزّ الدين الذي كان ساعدي اليمنى في مسؤولياتي القيادية هناك، بدأت الفكرة تتطور تدريجياً بحسب المنطلقات الآتية:

أولاً: كان الشعار الأول والأساسي الذي أطلقناه، وطلبنا من الجميع التقيّد به هو: «كل سجين منتج» فكراً، فناً كان أم صناعةً.

ثانياً: كل غرفة قاووش يجب أن تصبح «وحدة تعاونية» إنتاجية.

ثالثاً: تنوع الإنتاج يتوقف على الطاقات المتوافرة عند الرفقاء: مهارات فنية، تعليمية، لغوية، صناعية خفيفة تتوافر فيها المواد الأولية في السجن.

رابعاً: تشكيل لجنة فنية من الرفقاء الموهوبين، مهمتها وضع تصاميم لجميع الأشغال الفنية: خرزية، خشبية من رقائق الخشب الدقيق غير الممنوع في السجن، موزاييك من قشر البيض وغيرها من المواد المتوافرة وغير الممنوعة في السجن.

خامساً: يطلب من جميع المهتمين بالأعمال الفنية التقيّد بهذه التصاميم التي يهيئها الفريق الفني.

سادساً: في الإنتاج الفكري ـ الأكاديمي ـ اللغوي، يُطلب إلى كل قومي سجين يتقن اللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو العربية أو أي مهنة من المهن الأكاديمية كالمحاسبة ومسك الدفاتر، وغيرها أن لا يتردّد في تعليم الرفقاء في غرفته الذين يودونه في أي حقل من هذه الحقول.

سابعاً: يؤخذ خمسة في المئة من قيمة كل قطعة منتجة مادياً هذا بعد أن يصبح الإنتاج ذا مردود مادي خصوصاً المنتجات الخرزية والموزاييك المصنوعة من قشرة الخشب أو قشرة البيض.

ثامناً: توضع هذه الضريبة في صندوق التعاونية العام، في إشراف إدارة السجن.

يفرح القلب، أنه لم يمر سوى بضعة أشهر، حتى أصبح السجن خلية إنتاجية حقيقية، ولم يشذّ عن هذا البرنامج سوى شخصين فقط. لم يمرّ وقت طويل حتى بدأ المردود المادي للإنتاج، من جزادين خرزية، ولوحات فنية على أنواعها، ونرابيش أراكيل، وغيرها، يسدّ قسماً كبيراً من الحاجات المادية من طعام وأدوية ولباس. أكثر من ذلك، شرع بعض السجناء النشيطين إنتاجياً، في مساعدة أهاليهم في حدود ثلاث مئة ليرة شهرياً، وكانت القوة الشرائية لليرة اللبنانية في أوج مجدها .

ساعدنا عدد كبير من أصدقاء وصديقات للحزب بجد وإخلاص في بيع تلك السلع إلى المحلات التجارية والبيوتات اللبنانية 4 . وبلغت حصيلة ما جمعناه من الضريبة على القطع المنتجة حوالى ثماني مئة ليرة، أودعت الصندوق العام عند إدارة السجن. كانت هذه القيمة مخصصة لتغطية النفقات لبعض الرفقاء من أدوية وأمور شخصية متنوعة.

علمت، بعد خروجنا من السجن أن جمعاً من الرفقاء الذين تعلموا على أيدي رفقائهم من حاملي الشهادات الثانوية، أو الجامعية، أموراً، كاللغات الإنكليزية والفرنسية والعربية، وأموراً أخرى كأصول «مسك الدفاتر» والمحاسبة، وغيرها استطاعوا التوظّف في عدد من الشركات والمؤسسات التجارية.

ما أن اندلعت الحرب بين «إسرائيل» والدول العربية في صباح الخامس من حزيران 1967 حتى قفزت همومنا القومية إلى الواجهة ونسينا هموم السجن والعفو، ونظرنا إلى الآمال القومية التفاؤلية المرتقبة التي كنا نأملها ونحلم بها. كان ذلك سراباً بسراب إذ بعد بضعة أيام معدودة أي في التاسع من حزيران سمعنا الهزيمة الكارثة وانتصرت «إسرائيل» فيها وسيطرت في جبهاتها الثلاث مصر وسورية والأردن. ما زلت أذكر آثار الصدمة على رفقائنا دون استثناء خصوصاً ونحن نستمع إلى خطاب التنحي الذي كان يلقيه عبد الناصر. كان حزبنا على خصام سياسي مع الرئيس عبد الناصر وكان لنا معه جولات إعلامية سياسية والكثير من المواقف العدائية السلبية. ورغم ذلك أظهر الرفقاء القوميون في السجن في الوجدان والممارسة موقفاً مشرّفاً، على خلاف ما انتظره وتوقعه بعض الأطراف منا. يقول الأمين الدكتور سعاده في هذه المناسبة: «لقد خيّم الوجوم على الدرك جميعاً، وبعد ساعة تقريباً أتاني الرقيب أول صادق، وهو محمدي، يقول: «دكتور، أنتم جماعة كبار يصعب على أمثالنا فهمكم، كنا نتوقّع في محدوديتنا أن نراكم مثل بعض هؤلاء الحرس المسيحيين في حال انشراح لهزيمة عبد الناصر، فإذا بكم أكثر منا ألماً، وأبعد وعياً، فأرجوك أن تقبلوا اعتذارنا عن جهلنا وتأكدوا أنكم إخوتنا ونحن مستعدون لتقديم أي مساعدة تطلبون».

هوامش

1 السجن المدرسة: للاطلاع على النبذة الدخول إلى أرشيف تاريخ الحزب على الموقع التالي www.ssnp.info

2 استشهد الرفيق سعيد، شقيق الرفيق موسى مطلق ابراهيم في معركة ايعات صيف العام 1958. مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.

3 لا بد أن نذكر بكثير من التقدير، الدور الذي قامت به الرفيقة ليلى الجدع، وكنت كرئيس لمكتب الطلبة على تواصل معها. كانت تهتم باستئجار جناح في كثير من المعارض، لأشغال الرفقاء الأسرى، وكان رفقاء ورفيقات من الطلبة الجامعيين والثانويين يؤمنون دواماً يومياً.

4 شارك معه في المهمة، الرفقاء: أوغست حاماتي، جوزف عقل الياس وعادل أندراوس.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى