السعودية: ثمن باهظ جداً لسياسات نفطية انتحارية
إنعام خرّوبي
تصاعدت التحليلات، في الآونة الأخيرة، بشأن الوضع الاقتصادي المتدهور في المملكة العربية السعودية. وأشارت تقارير اقتصادية مختلفة إلى عجز متوقع في موازنة المملكة يقارب 150 مليار دولار، أيّ نحو 21.6 في المئة من الناتج المحلي السعودي الذي تشكل عائدات النفط نحو 90 في المئة منه، بالإضافة إلى مبلغ 360 مليار دولار تكبّده مصدِّرو النفط في الشرق الأوسط.
على ما يبدو، فإنّ عوارض وتداعيات السلوك الانتحاري للسعودية في أسواق النفط خلال الأشهر الأخيرة بدأت في الظهور. وإذا كان النفط وأسعاره قد صنعا أسطورة نفوذ الرياض الخارجي، وتماسك الوضع الداخلي فيها، فلا شكّ في أنّ انخفاض تلك الأسعار قد بدأ يخلق مشكلة تتداخل أصداؤها بين قصور أمراء وملوك الخليج والمؤتمرات والمنتديات الدولية.
المشكلة تكمن، وفق محللين، في سوء إدارة الثروات وتبديدها على شراء الذمم، والإنفاق السياسي، وعلى صفقات أسلحة بأرقام فلكية، كانت آخرها صفقة لاستيراد سفن حربية أميركية بقيمة 13 مليار دولار.
في العموم، يكاد يجزم المحللون بأنّ مرحلة الاستقرار والتقدّم في المؤشرات الاقتصادية الكلية قد انتهت، مع توقع حدوث تراجع في المؤشرات الاقتصادية الكلية كافة، على مدار عامي 2015 و2016.
في تقرير صدر أواخر تشرين الأول الماضي توقع صندوق النقد الدولي قيام السعودية بإنفاق جميع احتياطياتها المالية خلال السنوات الخمس المقبلة، وذلك في ظلّ هبوط أسعار النفط إلى أكثر من النصف منذ منتصف العام الماضي. وقد رسم التقرير صورة متشائمة للضغوطات المالية على الرياض، على ضوء تناقص احتياطياتها المالية بنحو 12 مليار دولار شهرياً، وقيام الرياض بسحب ما تقارب قيمته 70 مليار دولار من استثماراتها الخارجية خلال الأشهر الستة الفائتة، وهي تحليلات تتقاطع مع ما أوردته صحيفة «فورين بوليسي» قبل أسابيع قليلة.
الصورة السوداوية للواقع الاقتصادي السعودي لا تقتصر على ذلك، إذ إنّ توقعات صندوق النقد تشير إلى إمكانية تراجع هذا الاحتياطي نهاية العام الحالي ليصل إلى 659 مليار دولار، بعدما كان سجّل 724 ملياراً في بداياته.
وفي رأي بعض الخبراء الاقتصاديين، وعلى الرغم من أنّ الاحتياطيات المالية السعودية لا تزال كبيرة، فإنّ هذه المؤشرات والخسائر وعدم اليقين بشأن مدة الركود الحالي في أسعار النفط يتطلب سياسة لتخفيض الإنفاق، وهي السياسة التي تمثل مخاطر في حدّ ذاتها.
وفي سياق متصل، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد أمس، إنّ كلّ دول الخليج بحاجة إلى مزيد من التعديلات على ميزانياتها للتكيّف مع تراجع أسعار النفط على المدى الطويل. ومن المعلوم، أنّ صندوق النقد الدولي يحثّ على اتّباع سياسة لخفض الدعم وزيادة الدخل، عن طريق فرض الضرائب، إذا لزم الأمر.
حتى الآن، ليس هناك ما يدلّ على أنّ لدى السعودية أدنى فكرة عن كيفية إدارة المأزق المزدوج الذي وقعت أو أوقعت نفسها فيه، وخصوصاً أنها تعتمد في استراتيجيتها للبقاء على المستوى الداخلي، أسوة بغيرها من دول الخليج، على تقديم الرعاية والخدمات والمنتجات المدعومة إلى مواطنيها، مقابل امتناعهم عن التدخل في شؤون السياسة والحكم. وقد ضمنت صيغة العقد الاجتماعي تلك، لوقت طويل، تهدئة التوترات السياسية والاجتماعية التي عرفت طريقها إلى المملكة في مراحل مختلفة، وليس آخرها أحداث «الربيع العربي» حين أنفقت الرياض أكثر من 50 مليار دولار لتوفير النفط الرخيص والمنتجات الثانوية لسكانها.
كذلك، لا يمكن تجاهل أنّ الإنفاق الحكومي في السعودية يعتبر العنصر الأساسي في تنشيط الاقتصاد. وإذا كانت سياسة السحب من الاحتياطي النقدي السعودي قد تعرّضت لانتقادات بعض الأمراء ورجال الأعمال، على اعتبار أنها لا تقدّم حلولاً طويلة الأجل وتكشف فشل السياسات الحكومية في تأسيس قاعدة يعتدّ بها لقطاعات اقتصادية منتجة، فإنّ الغضب الشعبي في الكويت الذي ترتب على خفض دعم الديزل أعطى إنذاراً مبكراً للسعودية بشأن خطورة المضيّ في قرارات ترشيد الإنفاق.
من جهة أخرى، وعلى وقع الحاجة إلى إيجاد مخرج للأزمة المالية والاقتصادية الراهنة في المملكة، تجد الأخيرة نفسها مرتبكة ومتردّدة في هذا الصدد. ففي حين صرح وزير النفط السعودي علي النعيمي، قبل نحو أسبوع، بأنّ بلاده تدرس احتمال زيادة أسعار الطاقة المحلية، عاد وتراجع عن تصريحاته معتبراً أنّ المملكة ليست في حاجة ملحة إلى خفض المساعدة المالية التي تمنحها لمواطنيها في صورة أسعار مخفضة للطاقة. وفي هذا السياق، أفادت وكالة «رويترز» بوجود تعليمات وتوجيهات لترشيد الإنفاق الحكومي، الأمر الذي سينعكس بالتالي على المشاريع القائمة التي تنوي السعودية تنفيذها في الداخل، وعلى معدّلات بذخ «أصحاب السمو» في وقت تبدو فيه المغامرات السياسية لهؤلاء من اليمن إلى سورية والعراق، وإغداقهم الدعم الاقتصادي والمالي على حلفائهم الإقليميين أحد أبرز مسبّبات البيانات المالية والاقتصادية غير المبشِّرة بالنسبة إلى الرياض.
الوقت يمضي، فيما يزداد غرق المملكة في وحول السياسات المكلفة. كما أنّ خيارات الرياض السياسية الاقتصادية والمالية تضيق في زمن هبوط النفط، فما الذي تنوي فعله لتدارك الوضع؟ أغلب الظن أنّ خيارها سيكون الاستخدام المحسوب للاحتياطيات النقدية، وتخفيض الميزانية تدريجياً، مع الحرص على عدم إثارة مشاعر السخط لدى فئات واسعة من الشعب الذي تعوّد طويلاً على المستويات المعيشية المرتفعة، والحذر الذي يفرضه الزمن الإقليمي الحسّاس على الداخل السعودي حيث الخلايا النائمة للتنظيمات المتطرفة في نموّ مستمرّ.
المعادلة تبدو صعبة للغاية، فهل تكون ممكنة؟