في «داعش» وطبيعة العلاقة الغربيّة- التكفيريّة
د. إبراهيم علّوش
إذا تدخلت الولايات المتحدة في العراق بذريعة ضرب «داعش» في العراق، فإن ذلك سيكون مرفوضاً ومداناً من قبل أي وطني أو قومي شريف في بلادنا، التزاماً بمبدأ رفض التدخل والهيمنة الأجنبية، الأميركية والغربية بخاصة، لكن ذلك لن يجعل من «داعش» قوةً وطنية أو مناهِضة للإمبريالية، ولا من التحالف معها استراتيجية صحيحة للذين يعتبرون أنفسهم وطنيين عراقيين أو بعثيين.
جعلت الولايات المتحدة منذ «الحرب الباردة» من بعض الإسلام السياسي جزءاً من إستراتيجيتها لاحتواء الاتحاد السوفياتي من ناحية وحركات التحرر والنهوض القومي في العالم الثالث من ناحية أخرى. وفي مرحلة «الحرب على الإرهاب» أخذ صراعها مع تلك الحركات شكل محاولة التخلص من قوة عمل فائضة، ثم شكل ذريعةٍ لانتهاك سيادة الدول وفرض التعاون الأمني عليها تحت طائلة اتهامها بالتواطؤ مع «الإرهاب».
لكن منذ ما يسمى بـ»الربيع العربي» أخذت العلاقة الغربية مع «السلفية الجهادية» مسارات غير خطية ومتشابكة لا يمكن اختزالها في أي خط مستقيم، ما ولّد تشوشاً في أذهان بعض مناهضي الإمبريالية في العالم. فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يدعمون الحركات التكفيرية والظلامية في سورية، ويقصفونها في اليمن وباكستان، ويتخذون منها ذريعة للتدخل في مالي وأفريقيا الوسطى، ويدعمونها ثم يحاربونها في ليبيا أو أفغانستان… أما حكام السعودية والخليج العربي، حلفاء الولايات المتحدة الإقليميّون، فيجتثّون التكفيريين في بلدانهم، ويستخدمونهم في الآن عينه أداة وظيفية في العراق وسورية ولبنان وكامل الوطن العربي، ما يعطي أولئك الحكام حيّزاً لـ»إنكار المقنِع» إنكار دعمهم أمام المجتمع الدولي، فيزداد التشوش في المشهد السياسي العربي.
لذلك لا نكاد نشهد دعماً غربياً واضحاً للحركات التكفيرية في موضعٍ ما ربما يدفعنا إلى توجيه اتهام مباشر لها بأنها صنيعة الطرف الأميركي-الصهيوني وأداته، حتى نشهد حالات قصف أو خطف غربية لها، ولا نكاد نصدق الخطاب الغربي عن خطورة الحركات التكفيرية في نيجيريا أو العراق مثلاً حتى نستعيد صورة دعمهم في ليبيا ثم سورية في السنوات الأخيرة…
لا بد إذن من تشخيصٍ موضوعي للعلاقة الغربية-التكفيرية لا ينساق خلف الأماني الزائفة بأن الغرب سيصغي إلينا ويتفهمنا لو أوضحنا له أن ما يحصل في سورية والعراق ولبنان هو «حربٌ على الإرهاب»… ولا يفرض رؤىً خطية ومسبقة الصنع بأن الغرب يقف خلف الحركات التكفيرية والظلامية في كل ما تقوله وتفعله، متجاهلاً الصراعات الدموية التي يخوضها الغرب ضدها أحياناً في بعض المواضع.
لا ريب في أن الحركات التكفيرية والظلامية زُرعت بذارها الأولى في العصر الحديث مع محاولات الاستعمار البريطاني احتواء حركات التحرر الهندية ثم المصرية، وهذا ما يوثق له مثلاً روبرت درايفوس في كتابه «لعبة الشيطان: كيف أطلقت الولايات المتحدة الإسلام الأصولي» الصادر عام 2006. يُشار في المقابل إلى أن حركات التحرر الوطني المسلحة إسلامية الطابع التي انطلقت في الوطن العربي منذ مطلع القرن الفائت حملتها قياداتٌ صوفية، من عبد الكريم الخطابي إلى عمر المختار إلى عز الدين القسام، رغم محاولة «الإخوان» والسلفيين مصادرة ذلك التراث النضالي العريق لحسابهم. كذلك يوثق روبرت درايفوس ذاك التحالف، الذي تحوّل إلى علاقة وطيدة طويلة المدى، بين الاستعمار البريطاني والحركة الوهابية في مواجهة محمد علي باشا، مطلق أول مشروع نهضوي تحرري وحدوي في العصر الحديث، ومحطم الدرعية عاصمة الوهابيين الأولى.
غير أن اللافكر، أو اللاعقل التكفيري الظلامي هو تعريفاً الضدّ الأول للإسلام، والحضارة، والإنسان، والدولة الوطنية، والمواطنة، والمرأة، والعقلانية، ومنجزات البشرية الاجتماعية والسياسية كافة منذ بدء التاريخ. بصفته تلك، وبقدرته على الانتشار بقوة «الإيمان»، لا بقوة الدعم الغربي أو البترودولاري فحسب، وبقدرته على التكاثف مع الزمن وبتجاوز ذاته رجعياً، وبقدرته تالياً على إنتاج جيوشٍ عقائدية منفلتة من عقالها تتمثل أسوأ ما في ثقافة الغزو المركبة على إعادة إنتاج عصر شبيه الإنسان النياندرثال، فإنه بات أشبه بفيروس مضاد للنهضة الإنسانية، لا القومية فحسب، وهو لا يعادي حركات التحرر والدول المستقلة فحسب، إنما يعادي الحضارة الغربية أيضاً.
تلك الصفات الجوهرية لتكوين العقلية التكفيرية الظلامية، التي نشأت في حضن حركة «الإخوان المسلمين» لتنفيها وتتجاوزها، تماماًُ مثلما تجاوزت «داعش» تنظيم «القاعدة» لتجعل الأخير يبدو قوةً «معتدلة»، جعلت من الجماعات التكفيرية الظلامية سلاحاً جرثومياً فتاكاً على مستوى الإيديولوجيا لا يعي ولا يفقه سوى غاية وجوده في تدمير الإنسان. لكن السلاح البيولوجي يصعب جداً احتواؤه في بقعة واحدة، فالجرثومة التي تلقيها على عدوك يمكن بسهولة أن تنتقل إليك عن طريق العدوى أو الهواء. والشباب المتأثر بالجرثومة التكفيرية الظلامية في الغرب مثلاًً، خاصة من الأصول الأوروبية المسيحية، لا يمكن اعتبار اندفاعه إلى القتال في سورية أو العراق تحت راية المنظمات التكفيرية والظلامية نتيجة تعرضه للتهميش السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، كما يذهب البعض، إنما هو لسبب أيديولوجي صرف، وشهادة عابرة للثقافات عن قدرة الجرثومة التكفيرية على الاختراق العقائدي.
إذن استخدم الغرب السلاح الأيديولوجي التكفيري في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية والحركات والدول والتجارب النهضوية والتحررية والوحدوية في العالم الثالث عامة والوطن العربي والعالم الإسلامي خاصة، فكان بذلك كمن يستخدم سلاحاً جرثومياً فتاكاً أعمى يمكن بسهولة أن يرتد على من استخدمه ووظفه، فصار ضرورياً أن يتم احتواؤه في المواضع التي يخدم مصالحه فيها، فإذا خرج عنها أو زالت فائدته حق ضربه وشطبه جزئياً أو كلياً، من دون أن يعني ذلك أن وجود «داعش» في العراق، بما تمثله من مشروع للفتنة والتفكيك وكسر الهلال الممتد بين طهران وبيروت هو أمرٌ يتعارض مع المصالح الأميركية ـ الصهيونية في بلادنا.