تركيا الجديدة: هل تحول أوغلو إلى كويرس؟
يُطرَح السؤال حكماً عن تركيا الجديدة التي وُلدت من الانتخابات الأخيرة التي فاجأت بنتائجها حتى أهلها والرابحين فيها. بين ما كان مجرد آمال لديهم بالفوز، والفوز الكاسح الذي حُقّق، ولم تجرؤ على توقعه استطلاعات الرأي الأشدّ تفاؤلاً وقرباً من «حزب العدالة والتنمية»، وقيمة الاستقراء لماهية تركيا المولودة من رحم الانتخابات بالسلوك والمواقف والتوازنات والعلاقات بقوى الداخل والخارج، أنها تساهم في تفسير اللغز الذي ترتب عليه هذا الفوز، والفوز الكاسح تحديداً.
في الخارج، أمامنا صوت أوروبيّ مرتفع تنديداً بمأ سمّته منظمة «الأمن والتعاون» الأوروبية، التي تعتبر صاحبة أكبر جهاز عالمي للرقابة على الانتخابات، بالفضيحة الانتخابية التركية، التي تُحوّل هذا البلد المتقدّم في الشرق الأوسط على طريق الديمقراطية إلى نموذج للدكتاتورية والشمولية. مستعرضة في تقريرها عن الانتخابات ما قالت إنها إسباب كافية كي لا نتحدث بعد عن عملية انتخابية. وفي مقدّم هذه الأسباب التي أوردها التقرير، إغلاق الصحف والقنوات التلفزيونية، واعتقال رموز الديمقراطية من كتّاب المقالات ومقدّمي البرامج أصحاب التأثير في الرأي العام، وإغلاق شبكة الإنترنت تحت رقابة مشدّدة للمسموح والممنوع، وصولاً إلى منع ترشيح عشرات من المعارضين بأسباب قضائية واهية ينتهي مفعولها بأيام المهل القضائية لإثبات التهم، فتكون الانتخابات قد انتهت، أو مهل الترشيح قد تخطّاها الوقت. والأهمّ، أن التقرير الذي يعرض لما يسميه مهزلة الإشراف على الانتخابات التي تضمنت تسليم الحزب مسؤولية إدارة العملية بغطاء الصفة الرسمية، لدور المال السياسي والوعود الشخصية كرِشى انتخابية موصوفة، ليخلص إلى الدعوة إلى وقف المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا تحت عنوان الانضمام إلى الاتحاد.
لم تكد تنتهي الانتخابات التي يفترض أنها توّجت «حزب العدالة والتنمية» بزعامة لم ينلها منذ نيله الغالبية البرلمانية قبل 15 سنة، حتى بدأت التوترات تتصاعد في مناطق الغالبية الكردية مبشّرةً بعواصف أمنية تحدّثت عنها التقارير الصحافية التركية والأوروبية والأميركية على حدّ سواء، على خلفية سقوط مساعي التهدئة بين الحكومة و«حزب العمال الكردستاني»، واتهام الأكراد لأجهزة الحكومة بالتلاعب الانتخابي. فضعف تمثيل «حزب الشعوب الديمقراطي» الذي منحه الأكراد تصويتهم.
التوتر الذي شكّل الصفة الجامعة لمرحلة ما بعد فوز «حزب العدالة والتنمية» لم يرافق الجبهات السياسية والعملياتية التي يفترض أن الرئيس التركي رجب أردوغان ورئيس حكومته داود أوغلو يعتبرانها جبهات مواجهة مصيرية. والتي كانت مشتعلة عشية الانتخابات، وكانت الرهانات على الانتخابات تنتظر النتيجة ليبدأ تصعيد غير منتظر. فإذ الفوز ومن ورائه برود تام في الدور التركي على هذه الجبهات، بينما نارها بذاتها تشتعل قرب الحدود التركية وتحت عين الحكومة التركية. فالغارات الروسية تتواصل على خطّ الحدود السورية ـ التركية، وحديث المناطق العازلة إلى تراجع، والجيش السوري يواصل الزحف وبقوّة وسرعة ليلتهم مناطق انتشار «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، حيث المجموعات التي تحظى بأوسع دعم تركيّ، وصولاً إلى معادلة «لن نقف مكتوفي الأيدي». فما الذي جعل الأيادي التركية مكتوفة، خلافاً لوعود ما قبل الفوز، والفوز جاء منقطع النظير؟
تم لقاء فيينا الخاص بسورية، وتوقّع متابعو الوجهة التي سيصرف فيها أردوغان نصره الانتخابي، فوجدوه باهتاً في فيينا، معلناً الرغبة بمنح الأولوية للحلّ السياسي، مبعتداً عن معادلته الشهيرة «لن تشارك تركيا في الحرب على داعش خارج إطار وضوح معادلة تضمن تغيير النظام في سورية». ومفهوم أردوغان هنا النيل من الرئيس السوري الذي خرجت معادلة فيينا بالتسليم ببقائه متبنّية معادلته بأن الرئاسة السورية شأن السوريين وحدهم، يقرّرون مصيرها عبر صناديق الاقتراع. وفي فيينا جرت المجاهرة بضمّ حليف أدروغان السوري الذي تمثّله «جبهة النصرة» إلى لوائح الاستهداف بدلا من التعويم السياسي الذي رمى بثقل تركيا لتأمينه. وفي فيينا وزّع الأميركيون ورقة عمل على بعض الحلفاء والخصوم ومنهم تركيا تتضمن المطالبة بوقف بيع النفط الذي تنهبه جماعات «داعش» من سورية والعراق، والمقصود بالمطالبة تركيا حصراً.
يسجّل أردوغان خلال الأيام التي تفصله عن الانتخابات في أقل من أسبوعين، أربعة اتصالات بالرئيس الروسي. وبعدما كانت روسيا عنوان الانتقاد التركي للدور الذي تؤدّيه في سورية، حلّ الصمت عن هذا الدور الروسيّ، ورافقه التفرّج على الوقائع التي يفرضها هذا الدور بالتعاون مع الجيش السوري والحلفاء، بينما تعلن الحكومة التركية كل يوم حصيلة لاعتقالات تقوم بها الأجهزة الأمنية التركية تطاول عناصر من «داعش» في مناطق حدودية أو في مدن تركية، تستعدّ لأعمال تخريبية، وحصيلة للتوسع في غارات تشنّها الطائرات التركية ضدّ مواقع «داعش» في سورية والعراق. وحصيلة للمواجهات مع «حزب العمال الكردستاني» واستهداف مواقعه ومجموعاته، ما يصفه الخبراء في الشأن التركي بالانكفاء من خطوط الدور الإقليمي الموسّع إلى ما وراء خطوط ما يسمى بالأمن القومي التركي.
لا تفاصيل عن الصفقة التي سبقت الانتخابات التركية ومنحت أردوغان درع التثبيت وكيف، سوى ما نشر عن تدخل أميركي لدى جماعة فتح الله غولن المنشقّ عن أردوغان لمنح أصوات مناصريه لأردوغان بعدما سلّم «حزب العدالة والتنمية» بدفتر الشروط الأميركي المنسّق مع روسيا في خطوطه العريضة حول الدور التركي المطلوب في الحلّ السياسي في سورية، وفي الحرب على الإرهاب بالتوازي. وفي المقابل، ليس هناك سوى ما يلفت المراقبين بالتغاضي عن التجاوزات التي سجلت في الانتخابات وأصابتها مقتلاً في الصميم. لكن الأكيد أن هناك شيئاً ما قد جرى غير ما يريد أوغلو إقناع المراقبين والمتابعين به، من نجاح الحملة الانتخابية لحزبه بصورة فاقت توقعاته، لأن هذا في حال حدوثه كانت علاماته ظهرت تباعاً في استطلاعات الرأي، الموجّهة من قبل الحزب على الأقل تميهداً لتجرّع مفاجأة الفوز من المراقبين، وتفعيلاً لنتائج الحملة، وهذا أمر لا يغيب عن اللاعبين الانتخابيين الأقلّ خبرة من أوغلو وحزبه. والأهم لو كان الفوز المفاجئ والمتخطّي حدود التوقعات يمنح الحزب الفائز اندفاعة في وضع سياساته على الطاولة بقوة، خصوصاً ما كانت وعوداً تستعد لها تركيا مع الفوز وأهمها، أن روسيا ستدفع ثمن هذا التدخل في سورية، وأن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي، وأن الحرب على «داعش» مشروطة بالحرب الأخرى التي وضعتها حكومة «العدالة والتنمية» في تركيا قضية حياة أو موت، وربطت عبرها مصير حكمها بمستقبل الرئيس السوري.
فاز أردوغان وهُزمت سياساته. فربما تكون الهزيمة السياسية أهون من الهزيمة الانتخابية عليه.
كان الأتراك يصفون أوغلو بأنه كورس وراء أردوغان. فهل تحوّل إلى مصغّر كورس فصار كويرس؟ طرفة يتداولها خصوم أوغلو الأتراك بعد دخول الجيش السوري إلى مطار كويرس تحت أعين الأتراك!
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.