نشر الكتاب العلميّ ورواجه… مسؤوليّة من؟
كتبت صفات سلامه: بين القضايا المصيرية راهناً، والتي تحدد مكانة الدول، قضية تعزيز قيم العلم وقيمته وتقدير العلماء وقيمة المؤلفات العلمية. ففي حين ينشغل البعض في عالمنا العربي بالتظاهرات والإحتجاجات، ثمة شعوب وأنظمة وحكومات متقدمة مهمته بالعلم وقضاياه واتجاهاته وعلوم الحاضر والمستقبل الحديثة التي ستغير العالم وتحدد مكانة الدول عالمياً على خريطة العلم والتكنولوجيا، مثل علوم الخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة وطب التجديد والنانو بيوتكنولوجي والذكاء الاصطناعي والروبوتات والاندماج ما بين البشر والآلات، وغيرها من اتجاهات علمية وتكنولوجية حديثة، ومنشغلة بتربية أبنائها ومواطنيها على تقدير العلم والبحث العلمي والعلماء.
غادر العلماء العرب أوطانهم بسبب إهمال قيمة العلم وتدهور البحث العلمي وتدني موازنات التعليم وحالات الإحباط والكبت وغياب المناخ العلمي والحرية التي تعتبر الأساس للابتكار والإبداع. ومن المفيد القول إن تبسيط العلوم ونشرها على نطاق واسع هو أساس الثقافة العلمية المنتشرة بين الأفراد في الدول المتقدمة، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، الكثير من الكتب العلمية المبسطة وبخاصة للأطفال والشباب، كما لا تخلو أي صحيفة أو مجلة من صفحات علمية يحرّرها متخصص قادر على تبسيط حقائق العلم الحديثة وعرضها بصورة يستطيع كل قارئ أن يستوعبها، وثمة قنوات متخصصة لتبسيط العلوم مثل قناة «الإكتشاف» Discovery و»القناة التعليمية» Learning Channel، وقناة وكالة الفضاء الأميركية «ناسا»، بالإضافة الى البرامج العلمية على العديد من القنوات الأخرى، وهناك أيضاً أقراص دي في دي العلمية المنتشرة في مكتبات دول العالم المتقدمة، ويعلق عليها علماء ومؤلفون كبار، في مواضيع واتجاهات علمية حديثة، وتقدم بصورة جذابة شائقة يمكن استيعابها بسهولة لإثارة حب العلم لدى الأفراد وبخاصة الأطفال والشباب، ومن شأنها إثارة خيالهم وتفجير طاقاتهم الإبداعية، ولا شك في أن هذه الأساليب كلّها وغيرها، تؤهل الأفراد جميعاً للعيش في عالم الغد، وتؤدي في النهاية الى إشاعة المنهج العلمي في التفكير والإبداع العلمي، وبالتالي القدرة على مواجهة الأزمات والمشاكل بفاعلية أكثر.
وتعتبر قضية نشر الكتاب العلمي ورواجه من القضايا بالغة الأهمية حالياً في حياة الأمم والشعوب المتقدمة، فالكتب العلمية المبسطة لعامة الجمهور، والكتب العلمية الأكاديمية المتخصصة الموجهة إلى طلاب الجامعات والباحثين والدارسين، ضرورة مهمة لملاحقة التطورات والمواضيع العلمية الحادثة والمتسارعة، ولخدمة أغراض التنمية المجتمعية، من خلال التوجه نحو البحوث في هذه المجالات والتخصص في الدراسات العلمية التي تواجه عزوفاً لدى طلاب كثر.
على سبيل المثال، لدى نشر الكتاب العلمي «الربيع الصامت» في أيلول 1962 للمؤلفة الأميركية راشيل كارسون 1907- 1964 ، وهو لعامة الجمهور، ويتناول لتأثير المبيدات الكيميائية على البيئة الطبيعية، وتخيلت فيه المؤلفة فصلاً ربيعياً لم تعد تسمع فيه زقزقة الطيور، إذ اختفت جميعاً، وركزت فيه على الحد من الاستعمال العشوائي وغير المنضبط للمبيدات الكيميائية. ويعتبر هذا الكتاب يعد من الكتب العلمية ذات القيمة الكبيرة في تغيير العالم، إذ أثار جدلااً حاداً في المجتمع وتأثيراً عميقاً ووعياً جماهيرياً، وساعد في إطلاق الحركة البيئية الأميركية، وألهم أجيالاً من الناشطين البيئيين حتى اليوم، وكان من أكثر الكتب مبيعاً إلى وقت قريب.
لعل السؤال المهم هنا: من المسؤول عن نشر الكتاب العلمي ورواجه؟ هل هي مسؤولية دور النشر أم مسؤولية المؤسسات الحكومية؟ أم مسؤولية المؤلفين؟ ولِمَ هذا العزوف من بعض دور النشر عن نشر الكتاب العلمي؟
الحقيقة أن المسؤولية جماعية مشتركة يشارك فيها العديد من الأطراف والجهات، لكن يمكن القول إنه لا بد أولاً من نشر العلم كثقافة مجتمعية راسخة ذات قيمة وأهمية في أنشطة الحياة اليومية، وأن يأخذ العلم مكانه اللائق بين كل ما ونقرأه ونسمعه ونشاهده، الأمر الذي يساهم في تغيير نظرة مجتمعاتنا العربية للعلم، وتنشئة مواطن يمارس التفكير العلمي في جميع مجالات حياته، ويدرك أن الإنجازات العلمية والتكنولوجية ليست ترفاً، بل هي الطريق نحو التميز والريادة راهناً ومستقبلاً.
قد لا تدرك بعض دور النشر العربية أهمية مخطوطات علمية يتقدم بها مؤلفوها وقيمتها، وتظل حبيسة الأدراج، بينما في الدول المتقدمة، تتلهف دور النشر على مواضيع معينة من الكتب، وعلى أسماء من الكتاب والمؤلفين الذين يحققون رواجاً وانتشاراً واسعين، ومن هنا يحقق الكتاب والمؤلف في الدول المتقدمة انتشاراً وثراءً واضحين، فالكتاب صناعة احترافية جادة، بينما قد يقع المؤلف العربي ضحية جشع بعض دور النشر واستغلال الناشر لحاجة المؤلف الذي قد لا يحصل من كتبه على أي عائد يذكر، كما تظل كتبه حبيسة مخازن دور النشر ورفوف المكتبات ولا يعلم عنها الجمهور رغم أهميتها وقيمتها التنموية.
بات نشر الكتاب العلمي وتسويقه ورواجه صناعة عالمية مهمة تستلزم أن تكون لدى دور النشر هيئة استشارية متخصصة لاختيار نوعية الكتب العلمية المطلوبة، وأن يكون هناك محرر وفريق عمل للكتاب العلمي يتعاون مع المؤلف في اختيار عنوان الكتاب وشكله ومحتوياته وأفكاره، كي يخرج في أفضل صورة، ويكون ملائماً لمتطلبات سوق النشر، وعند طباعة الكتاب وقبل توزيعه. ومهمّ أن توزع دور النشر الكتاب على عدد من الإعلاميين والكتاب العلميين والمتخصصين في مراجعات الكتب في المجلات والصحف ووسائل الإعلام الإلكترونية، لنشر مقالات حول الكتاب أولاً، وبعد ذلك يطرح الكتاب في الأسواق، وبالتالي يكون حظي هو ومؤلفه برواج وانتشار واسعين بين الجمهور.
ثمة أهمية تشتري الوزارات والمؤسسات في الدولة مثل وزارات التعليم والشباب والثقافة نسخاً كثيرة من الكتب العلمية الجادة والمهمة التي يمكن من خلالها أداء دور تعليمي وتنويري وتثقيفي، كما يمكن من خلالها دعم الناشرين والمؤلفين.
مهمّ أيضاً التسويق الجيد للكتاب العلمي من خلال وسائل الإتصال الحديثة، كالإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي مثل «فيسبوك» و»تويتر» وغيرها، بالإضافة الى أهمية قيام دور النشر بتنظيم ندوات للمؤلفين ونشرها وعرضها عبر وسائل الإعلام، ولا شك في أن ذلك يساهم في رواج الكتاب وتسويقه بصورة جيدة.
ليتمكن العالم العربي من اللحاق بالثورات والتطورات والقضايا العلمية والتكنولوجيا العالمية المتسارعة، باتت هناك ضرورة عاجلة وأكثر من أي وقت مضى للاهتمام المتزايد بتأليف وترجمة الكتب العلمية وفق خطط واستراتيجيات فاعلة يساهم فيها العلماء وذوو الاختصاص، مع الإفادة من رؤى الكتاب العلميين وعلمائنا العرب في الداخل والخارج في تحديد قائمة بمواضيع ومجالات العلوم والتكنولوجيا ذات الأهمية العاجلة، والإفادة منهم في تشجيع القراء على قراءة الكتب العلمية والتعرف إلى اتجاهات العلوم الحديثة وقضاياها، من خلال استضافتهم في ندوات ومحاضرات عامة لمناقشة هذه الكتب مع مؤلفيها ومترجميها، في دور النشر والمكتبات العامة ووسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، وبخاصة القنوات والبرامج الثقافية في فضائياتنا المتزايدة، على أن يكون محور هذه اللقاءات تناول أهم وأفضل الكتب العلمية الصادرة التي تتناول مواضيع ومجالات مهمة للفرد والمجتمع، على أن يرافق هذه الندوات واللقاءات دعم إعلامي كبير.
استطلاعات الرأي أيضاً مهمة للتعرف إلى توجهات العلماء والقراء ودور النشر في مجال نشر الكتب العلمية. ومن الضروري أن تعلن دور النشر، بالتعاون مع وسائل الإعلام، عن مسابقات عامة تدور حول تأليف كتب علمية في مواضيع ومجالات معينة تعاني المكتبة العلمية العربية من نقص فيها، فمن خلالها يمكن الكشف عن نماذج جديدة واعدة لكتاب ومؤلفين علميين يمكن تبنيهم ورعايتهم ودعمهم مادياً ومعنوياً. كما يمكن تنظيم مسابقات للجمهور في قراءة كتب علمية بارزة مؤلفة ومترجمة، تشمل جوائزها مجموعة من الكتب العلمية ورحلات لمراكز ومعاهد البحوث العلمية لتقدير قيمة العلوم وجهود العلماء، والتعرف عن قرب إلى اتجاهات وقضايا العلوم الحديثة، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات أخرى عامة.
قضية نشر الكتاب العلمي ورواجه وتسويقه في عالمنا العربي، يجب أن تكون قضية مجتمعية تشغل بال الجميع، وعلى المستويات كافة، انطلاقاً من قيمته وأهميته المتزايدة في إشاعة التفكير العلمي وتغيير العالم.
الكتاب العلمي صناعة تنموية تحتاج الى كفاءات مهنية وفنية متخصصة في تأليفه وطباعته ونشره وتوزيعه ورواجه، للارتقاء بالثقافة العلمية وملاحقة التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة