رأي عام غربي من نوع آخر
كان من المفترض أن تتبنى أحداث الربيع العربي في الشرق الأوسط أجندة سياسية وفكرية جديدة تؤسس للسنوات المقبلة وتعطي زخماً غربياً أكبر في الحضور السياسي في مختلف دولها العربية.
كان من المفترض أن يؤسِّس الربيع العربي لدعم الكيان «الإسرائيلي» والعمل على حمايته وتعزيز مواطن الضغط على التنظيمات والأحزاب التي تحاربه وأبرزها حزب الله وإضعافها بإسقاط أنظمة حليفة له، وبالتالي افترض مصنعو الربيع كسلعة تعرض على العالم العربي، أنه قادر على تحقيق هذه الأهداف برمتها».
فشل الربيع العربي في أخذ المنطقة نحو انهيار دراماتيكي للدول التي فقدت السيطرة عليها بعدما تسلمت زمام الأمور فيها قوى الإرهاب حيث لم تعد قادرة على كبح جماحها أولاً ولا المنافسة بينها كتنظيمات إرهابية ثانياً، والأهم فقدان السيطرة على مشغليها من الأجهزة الاستخبارية ثالثاً.
كان من المفترض أن يخلق الربيع العربي رأياً عاماً غربياً يدعم أمن «إسرائيل» ويحمي حدودها من الفوضى التي لحقت بالجوار وخلق حالة من التعاطف مع قضيتها، ككيان يجب أن يخطو خطواته الأولى على طريق تأسيس الدولة اليهودية، حلم مؤسسي الكيان منذ النكبة الفلسطينية.
كان من المفترض أن يتكون رأي عام غربي يحكي مظلومية «إسرائيل» ويحشد للتعاطف مع ضرور رفع حماية أمنها القومي واستقرارها الداخلي إلى أعلى المستويات، ما سيعود عليها كسباً مادياً ومعنوياً وصفقات عسكرية وتعزيزاً لموقعها السياسي في المنطقة وتكريساً لها كقوى إقليمية عظمى وحيدة بعد النجاح في تفكيك الجيوش العربية واحداً تلو الآخر وتفردها مجدّداً واستعادة لقب الجيش الذي لا يُقهر وهو اللقب الذي سلبها إياه حزب الله.
تكون الرأي العام الغربي لعقدين من الزمن على مفهوم المحاربة والقتال على غير أرضه من دون اعتبار أنّ ذلك سيؤثر مباشرة على أمن مجتمعاته ومن دون توقع أي ضرر سيلحق به قد يكلفه خوض حرب كبرى وإذ به يفاجأ اليوم بأنّ الحروب التي افتتحتها الولايات المتحدة في العراق أسست لإرهاب انتشر في كافة أصقاع الأرض يستحيل السيطرة عليه اليوم ويستحيل تجاهله من دون التورط في حرب لمكافحته، والأهم اكتشف الرأي العام الغربي أنّ حكوماته كانت تراوغ منذ اجتياح العراق وتبتدع حججاً مثل التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل التي كان من المفترض أنها بحوزة نظام صدام حسين وبأنّ واشنطن تدخل الحرب من أجل مكافحة الإرهاب من أفغانستان والعراق بعد حوادث 11 أيلول وإذ بالجماعات الإرهابية تتمدّد أكثر من أي وقت مضى منذ أن دخل الغرب المنطقة.
سقطت اليوم كلّ هذا الاعتبارات ويبدو أنّ رأياً عاماً غربياً جديداً يتكون أعاد ترتيب الأولويات وهو يؤسس اليوم لمرحلة شديدة الأهمية أول ما تسقطه عنها اعتبار أمن «إسرائيل» أولويتها لأنّ أمنها بات على المحكّ ولأنّ أكذوبة أمن «إسرائيل» كأولوية هي التي جلبت كلّ هذه الويلات إليهم، والنقطة الثانية هي موجة انتقادات عارمة للحكومات التي أصبحت مطالبة بموقف مسؤول بعد هجمات باريس التي لا تشكل هماً فرنسياً فحسب، بل أصبحت هماً أوروبياً ودولياً، لرمزية فرنسا وما يمكن لها أن تحصده من تعاطف دولي عام.
تدخل فرنسا اليوم من باب المسؤولية الوطنية الحرب على الإرهاب حليفة لروسيا والأصوات اليوم بدت أكثر صراحة وجرأة وبدأت تعلو وتنادي برفع الأولويات في المنطقة بلونها الأحمر لقتال «داعش» وليس إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد وهذا ما تحدث عنه شاك هاغل وزير الدفاع الأميركي السابق الذي عايش فترة الأزمة السورية بمفاصلها الأساسية، قائلاً: «على الولايات المتحدة التركيز بشكل أكبر على هزيمة تنظيم داعش من الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، فتنظيم داعش يمثل تهديداً حقيقياً لبلادنا، والعالم».
هكذا إذاً تتغير النبرة ويعرف الرأي العام الغربي أكثر فأكثر وجهة التحدي والصوت اليوم سيكون هدفاً لغد قادر على إسقاط حكومات تلك الدول إذا فكرت باللعب بمصير الشعوب والمراوغة في موضوع مكافحة الإرهاب. من هنا فإنّ مسارعة فرنسا كمقدمة يشرح نوايا بريطانيا أيضاً بعدها التي تتحضر على ما يبدو للدخول جدياً ضمن المنطق نفسه. وها هو رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون يؤكد أنّ «وجود القتلى في شوارع باريس يذكرنا بأنّ تنظيم داعش ليس مشكلة تبعد آلاف الأميال، بل هو تهديد مباشر لأمننا»، لافتاً إلى أنّ «استراتيجيته تشمل تعزيز التعاون الدولي بشأن مكافحة الإرهاب لرصد وإحباط المؤامرات أينما ظهرت في العالم».
الرأي العام الغربي الجديد اليوم يتكون على قاعدة أمننا أولاً، وليس أمن «إسرائيل» ومصالحها ولا يعنينا إسقاط الرئيس بشار الأسد، بل إنّ جزءاً كبيراً منهم بات يرى فيه رئيساً جادّاً في مكافحة الإرهاب.
«توب نيوز»