في دُوّامة التناطح والتحشيد… من ينقذ سورية من الغرق؟
د. محمد بكر
حتى ولو فُهم من تصريح الخارجية الأميركية لجهة عدم وجود تفويض سياسي من التحالف الدولي بإزاحة الأسد، بأنه قد يكون رداً على الإصرار السعودي الذي أعلن غير مرة على لسان وزير الخارجية عادل الجبير ضرورة رحيل الأسد سياسياً أو بالعمل العسكري، فإنّ التناطح السياسي وتصلّب المواقف حول جزئية مصير الأسد بات يشكل العنوان الرئيس للمشهد السياسي السوري، ولا يزال هذا العنوان مُقدّماً على ما يُعلن من توحيد للجهود لمحاربة «داعش» حتى بعد ما شهدته باريس من هجماتٍ دامية، هذا التناطح الذي يصرّ فيه كلّ فريق على مدّ «بساطه» وحياكته وتصنيعه وفق مقاساته الخاصة، ليفرد عليه تالياً شكل الحلّ السياسي الذي يبدو الشيء الأوحد الموغل في الرحيل بعيداً من إرادة اللاعبين الدوليين والإقليميين في الملعب السوري، ففي الوقت الذي يرى فيه حلفاء الدولة السورية بأنه ما من سبيل لحلّ الأزمة السورية من دون الأسد بحسب ما أعلن لافروف، وإنّ المسارات السياسية لن تفضي إلى أية نتائج من دون التصدّي الجادّ للإرهاب بحسب معاون وزير الخارجية الإيرانية حسين عبد الله يان، يطلّ الرئيس الأميركي وبعد يوم واحد فقط ليدحض ويطلق النار على تصريح لافروف ذي المضمون بأنه لا يوجد اتفاق بين الأطراف المشاركة في فيينا حول عدم مشاركة الأسد في مراحل التسوية السياسية، ليعلن أوباما وبالصوت العريض أنّ التسوية في سورية غير ممكنة مع بقاء الأسد في السلطة ليعيد بذلك الكباش إلى المربع الأول.
ما أكثر الاتصالات الهاتفية التي ترخي بظلالها على المشهد السوري، والتي يبحث مهاتفوها في ما يسمّونه الجهود المشتركة لمواجهة «داعش»، هذه الجهود التي تشبه كلّ أشكال بذل الجهد والتباحث إلا أن تكون بالشكل المشترك بين المتباحثين، وحدها التناقضات وإطلاق النيران وما تجود به الرؤوس الحامية من سيناريوات وتوصيات هي التي تخيّم على مشهدية الاشتباك الأميركي الروسي، ففي موازاة الإعلان أنّ ضباطاً روس وفرنسيين بحثوا وبالطبع هاتفياً الجهود المشتركة لمواجهة «داعش»، إضافة إلى ترحيب الكرملين بالطرح الفرنسي حول تشكيل جبهة موسعة لمكافحة الإرهاب، يطلق النار بدوره نائب مستشار الأمن القومي الأميركي على كلّ ما من شأنه أن يجمع الإرادات، إذ أعلن أنّ بلاده تريد خطة مشتركة لتقديم المزيد من الأسلحة للمعارضة السورية «المعتدلة» بحسب تعبيره، ربما ما أوصى به بوتين قيادته العسكرية لجهة تكثيف الغارات وزيادة زخمها، هو ما يزعج الأميركي ويشكل أيضاً إطلاقاً للنار من وجهة النظر الأميركية على هيبة وزعامة الولايات المتحدة التي ترى في سلوك روسياً سلوكاً أحادي الجانب ونسفاً لسيناريواته وتعويلاته في الداخل السوري.
ثمة عاملان رئيسان ما إنْ حدثا فإنه يمكننا القول إنّ بذاراً للحلّ السياسي قد بدأ نثرها في الأرض السورية، هذان العاملان اللذان يبدوان صعبي التحقيق على المدى المنظور لدرجة الاستحالة على قاعدة «حتى يلج الجمل في سمّ الخياط»:
– تأجيل الخوض في الحديث والتناطح السياسي وتصلّب الرأي حول مصير الأسد، وهذا ما لا يُتوقع حدوثه في ظلّ ما يتكاثر في خطاب الأميركي وحلفائه من مفردات الرحيل والتنحي، إذ تبدو هذه الجزئية غاية في التعقيد وتراوح في المكان مع إعلان بوتين عدم امتلاكه «الحق» في أن يطلب من الأسد التنحي، وهو ما تعدّه إيران خطاً أحمر، فيما أعلن وزير الخارجية البريطاني من براغ ضرورة تنحي الأسد في المرحلة الانتقالية مع إمكانية أن يشارك فيها لكن إلى حدّ معّين، وكذلك فعل وردّد فرنسوا هولاند وفي ذروة مشهدية الدماء التي رسمتها هجمات باريس.
– التوافق على صيغة تتوحد فيها رؤى المشتبكين في الملف السوري حول تحديد المنظمات الإرهابية الواجب استبعادها من أيّ حلّ سياسي، وتالياً التوافق على محاربتها ومواجهتها، ومن هنا نفهم أنّ إيكال مهمة صياغة كيان موحد لوفد المعارضة للجانب السعودي سيشكل بشكل أو بآخر إطلاقاً للنار أيضاً على الصيغ التوافقية، وتكريساً للمزيد من التناطح يطول فيه تعويل لافروف الذي أعلن أمله بأنْ لا يأخذ تحديد المجموعات المسلحة الواقعة ضمن دائرة الإرهاب وقتاً طويلاً.
على ذكر التناطح والكباش الروسي الأميركي، سُئل مرةً الكاتب والناقد المعروف نعوم تشومسكي وخلال فقرة أسئلة وأجوبة بعد محاضرة ألقاها في جامعة سنتروأمريكان في نيكاراغوا وتحديداً في عام 1986 لجهة كيف يمكنه الحديث عن الامبريالية الأميركية والروسية في الوقت نفسه. فقال تشومسكي حرفياً: «إحدى حقائق هذا الكون هو أنّ هناك قوتين عظميين إحداهما ضخمة وصادف أن يكون حذاؤها على عنقك، والأخرى قوة أصغر وصادف أن يكون حذاؤها على أعناق الآخرين، وأعتقد أنّ أيّ شخص في العالم الثالث سيقوم بخطأ جسيم إنْ استسلم للأوهام حول تلك المسائل».
بين دوامة رحيل الأسد والتحشيد الأميركي لمصلحة ما تسمّيه واشنطن معتدلاً، وبين إعصار الزخم الروسي وتكثيف الغارات التي لا يجدها بوتين كافية للقضاء على الإرهاب وحماية موسكو، نقف لنسأل أيّ مصيرٍ تنتظره السفينة السورية؟ مصيرٌ يقول المشتبكون والمتناطحون أنّ تقريره بيد الشعب السوري الذي أصبح «بطلاً» في مسلسلٍ من النزوح والتشريد والهجرة والغرق لا ينتهي.