سحابة سوداء تلوح في أفق العلاقات الاقتصادية الروسية ـ التركية
ميرنا قرعوني
لطالما اعتُبرت العلاقات الاقتصادية الروسية – التركية متينة وصلبة. فتركيا تُعدّ شريكاً اقتصادياً قديماً، ويمكن التعويل عليه بالنسبة لروسيا. وعاماً بعد عام تزايد حجم التبادل الاقتصادي بين الطرفين، وبحسب الخبراء الاقتصاديين، بات يُقدّر بنحو 44 مليار دولار حالياً، بعد أن كان 11مليار دولار في العام 2004، وكان من المتوقّع أن يرتفع إلى مئة مليار بحلول العام 2023.
تشغل تركيا المرتبة الخامسة بين الشركاء التجاريّين لروسيا، كما تجمع البلدين هيئة للتعاون المشترك تُسمّى «المجلس الأعلى للتعاون التركي – الروسي» الذي يساهم في إقامة علاقات العمل المباشرة بين الشركات والأقاليم الروسية والتركية، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات منها اتفاقيات التعاون في مجال الطاقة وبناء محطة كهرذرية، وفي مجال الزراعة، بالإضافة إلى اتفاقية تعاون في مجال ضمان النقل الآمن للنفط في منطقة البحر الأسود. ويعطي الطرفان الأولوية إبان ذلك لمشروع أنبوب النفط سامسون ـ جيهان الذي بدأ بناؤه في آواخر نيسان العام 2010، ويمرّ الخط من شمال تركيا إلى جنوبها التفافاً على مضيقيّ البوسفور والدردنيل. وسينقل النفط الروسي من حوض البحر الأسود إلى الأسواق الأوروبية ، فضلاً عن إلغاء تأشيرات السفر بين البلدين، ممّا يساهم في ازدياد عدد السياح الروس الذين يقصدون تركيا سنوياً، فقد بلغ عددهم العام 2014 نحو 4.38 مليون شخص، وذلك من أصل 42 مليون سائح، أدخلوا ما يقارب 36 مليار دولار إلى الاقتصاد التركي ، ويأتي السياح الروس بالنسبة لتركيا في المرتبة الثانية بعد ألمانيا التي صدّرت نحو 5.4 مليون سائح العام الماضي.
ومن أهمّ الصادرات الروسية إلى تركيا، موارد الطاقة والمنتجات الحديدية والمواد الكيميائية. أمّا الواردات الروسية من تركيا فتشمل النسيج ومنتجاته والماكينات ووسائل النقل ومنتجات الصناعة الكيميائية، والمواد الغذائية.
بالرغم من متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إلا أنّ العلاقات السياسية التركية الروسية في تدهور مستمر، ويعود ذلك إلى اختلاف الرؤى السياسية حول قضايا عدّة، وأبرزها الموقف من الأزمة السورية. ومما فاقم من توتر العلاقات ودفعها إلى مفترق الطرق، القرار الروسي بالانخراط في القتال الذي يخوضه الجيش السوري ضدّ الجماعات الإرهابية التي ترتبط بعلاقات أمنية وشراكات تجارية في تركيا، بما في ذلك تجارة النفط والآثار المسروقة من سورية لحساب داعش. ومن المعلوم أن العديد من تلك الجماعات تُقيم مقارّ مركزية قرب الحدود التركية مع سورية، وتحظى بمساندة مباشرة، أحياناً، في عملياتها داخل العمق السوري. الأمر الذي لم يعجب الجانب التركي. وفي 24 تشرين الثاني 2015 أسقطت طائرتان تابعتان لسلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز سوخوي 24، ممّا أدّى إلى مقتل أحد طياريْها، وقالت أنقرة إنّها حذّرت الطائرة عشر مرات خلال خمس دقائق بعد انتهاكها الأجواء التركية، بينما أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنّها أُسقطت داخل الأراضي السورية.
التداعيات التي أعقبت هذا الحادث طرحت أسئلة كثيرة حول مستقبل العلاقات الاقتصادية التركية الروسية، فبالرغم من التصريحات التركية التي اعتبرت أنّ ما جرى كان خطأ ناتجاً عن جهل هُويّة الطائرة، أصرّت روسيا على اعتبار الحادث «طعنة في الظهر» ومسّا بهيبتها كقوة عظمى، فقد أوعزت الحكومة الروسية بتشديد الرقابة على المنتجات الزراعية والمواد الغذائية القادمة من تركيا، وتنظيم عمليات فحص إضافية على الحدود.
وفي ما يتعلّق بصادرات الحبوب الروسية إلى السوق التركية، التي بلغت 3.5 مليون طن منذ بداية العام الحالي ما يشكّل نحو 12 بالمئة من إجمالي صادرات الحبوب الروسية، أكّدت الزراعة الروسية قدرتها على تعويض هذه الصادرات عبر توجيهها إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا في حال اقتضت الحاجة، بينما يتوقّع بعض الخبراء أن تكون المنتجات الزراعية المستوردة من إيران ومصر، بديلاً محتملاً للمنتجات التركية.
في الملف السياحي أصدرت السلطات الروسية توصيات للحدّ من سفر الرعايا الروس إلى تركيا، الأمر الذي دفع كبرى شركات السياحة في روسيا إلى وقف تسويق الرحلات السياحية إلى تركيا، والذي سيكبّد أنقرة خسائر جسيمة.
وقال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، إنّ روسيا ستنظر بشكل دقيق في جميع المشاريع المشتركة مع تركيا، بما فيها مشروع محطة «أك كويو»، أول مشروع محطة نووية في تركيا، الذي يتضمّن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات.
سحابة من الغبار الأسود تحوم في أفق العلاقات الاقتصادية بين الدب الروسي وتركيا، فجميع المؤشرات تدلّ على أنّ تدهوراً كبيراً في العلاقات الاقتصادية باتَ على الطريق، ولا يبدو أنّ ثمّة مجال لتوقّع انحساره من دون حل جذري للنزاع الكبير الذي يرتبط بسورية وبالحرب ضدّ الإرهاب حيث تلوح معالم التورط التركي حسب التقارير الروسية. فهل تُسارع تركيا إلى مراجعة حساباتها لتحافظ على موارد اقتصادية هامّة باتت مهدّدة، وتقدّم تنازلات سياسية لتحافظ على مصالحها الاقتصادية، أم لا بدّ من اختبار المواجهة المحتدمة بين الجانبين قبل فتح أبواب التسويات الممكنة؟