هل ستدفع تركيا ثمن المنطقة العازلة؟
د. هدى رزق
ذكر الرئيس الأميركي باراك أوباما مساوئ المنطقة العازلة، وأكّد رفضه لها خلال تصريحه في قمّة العشرين 15 و16 تشرين الثاني الحالي. لكن جون آلن، مبعوثه السابق ومنسّق العلاقات مع تركيا من العام 2014 إلى تشرين الأول الماضي، أكّد في مؤتمر عُقد في هاليفاكس كندا في21 تشرين الأول، أنّ عملية بريّة واسعة النطاق ضدّ «داعش» لن تكون على جدول أعمال واشنطن، وأنّ الدول الغربية إذا ما تعاونت تستطيع اقتلاع هذا التنظيم، إلّا أنّه تساءل حول ماهيّة القوة التي ستحمي الأراضي التي ستصبح خالية منه، إذ يرى أنّ الحكومة السورية عاجزة عن القيام بذلك، لكنه ألمح إلى أنّ القوات الخاصة الأميركية ستعمل مع القوات الكردية، بيد أنّه قال إنّ تركيا تعارض التعامل مع حزب الاتحاد الديمقراطي لقربه من حزب العمال الكردستاني، وتفضّل التعامل مع البيشمركة. وفي اشارة إلى المنطقة العازلة، أكّد أنّ واشنطن وأنقرة خطّطتا من أجل تأمين منطقة بطول 98 كلم غرب نهر الفرات خالية من داعش وبعمق 45 كلم داخل الأراضي السورية، وأنّ وزيري خارجية تركيا، فريدون سينيرلي أوغلو، وواشنطن، جون كيري اتّفقا على عملية مشتركة ستكون على الطريق.
الهدف الرئيسي إذاً هو إنشاء منطقة خالية من «داعش» بمساعدة المعارضة السورية المتواجدة على الأرض. هذه المعارضة «المعتدلة» ستكون من التركمان، لكنه لم يشرْ إلى مشاركة «أحرار الشام» و»جيش الفتح» والقوة التركية التي تساند هؤلاء… واعتبر أنّ هذه المنطقة ستشكل مكاناً آمناً يؤدّي إلى تسهيل عودة اللاجئين وتوفير الأمن. وأكّد أنّ تركيا فتحت قاعدتها الاستراتيجية للتحالف، وهذا جزء من التنسيق مع الأميركيين.
تحدّث في المؤتمر نفسه رئيس اللجنة العسكرية للناتو بيتر بافل، الذي اعتبر أنّه على الناتو التدخّل أكثر في القتال ضدّ «داعش»، ومن المحتمل أن يقوم بمشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب.
في السياق نفسه، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ الولايات المتحدة الأميركية أرسلت مساعدات عسكرية للمعارضة، وأنّها سمحت بمرور صواريخ «تاو» تمكّن قوى المعارضة من ضرب الطائرات الروسية إذا ما تصدّت لهذه المنطقة.
يمكن موضعة إسقاط الطائرة الروسية من قِبل طائرتي الـ «أف 16» التركيّتين في 24 تشرين الثاني في إطار خوض واشنطن لحروبها بالوكالة من جهة، وملاقاة أردوغان لها في الدفاع عن مشروعه بوجه الروس من جهةٍ أخرى. فالطائرتان أقلعتا من مطار أنجرليك العسكري الذي أصبح قاعدة أميركية، حيث يتمّ التنسيق بين القوات الجوية التركية والأميركية على أكمل وجه. لم يأتِ إسقاط الطائرة الروسية عفوياً، لا سيّما أنّ تركيا كانت قد حضّرت الرأي العام التركي عبر إدانتها القصف الجوي الروسي ضدّ جبال التركمان، وهي منطقة استراتيجية بالنسبة لتركيا، ويمكن عبرها كشف طرق الإمداد التركية للمسلحين على مسافة 30 كلم داخل الأراضي التركية، حيث يتمركز في هذه المنطقة مسلحون من «جيش الإسلام» و»جيش الفتح» والتركمان، ومتطوّعون من القوميين ومن الإسلاميين الأتراك، تعتبرهم تركيا جزءاً من المعارضة المعتدلة، وتقول إنهم يشاركون في ضرب داعش. اعتبر داوود أوغلو أنّ تركيا بقصفها للطائرة الروسية تحافط على أمنها الحدودي وتحمي التركمان الذين تعرّضوا للهجمات الأسبوع الماضي، لكن هذا الادّعاء بالدفاع عن التركمان يُخفي وراءه دعماً لمشروع المنطقة العازلة مهما اختلفت تسمياتها، لأنّ الدفاع عن التركمان لم يشكّل أزمة عند الحكومة التركية عندما قتلهم «داعش» في الموصل وتلعفر العام 2014. فالتركمان في سورية هم الورقة الأخيرة التي يلعبها أردوغان في سورية للحفاظ على مشروعه، وهو لا يحتمل خسارة هذه الورقة التي تعني هزيمته في سورية، كما لم يحتمل قصف شاحنات النفط المتوجهة من سورية إلى تركيا على مرأى من الإعلام العالمي.
للمرة الأولى يجري إسقاط طائرة روسية من قِبل دولة عضو في الناتو منذ العام 1950. الحِجّة التي ساقها أردوغان هي اختراق الطائرة لقواعد الاشتباك. هذه المعلومة تناقضت مع معطيات موسكو التي قدّمت دلائل على عدم صدقيته. ساند أوباما والناتو تركيا في «حقها» في الدفاع عن أيّ اختراق لقواعد الاشتباك… ظهرت جديّة الحادث بشكل مباشر. اعتقد أردوغان بأنّ تركيا تشكل الحدود الشرقية لدول الناتو الذي سيعتبر أنّ أيّ انتهاك تقنيّ لتركيا هو بمثابة انتهاك له. لكن الأخير دعا روسيا وتركيا إلى التفاهم. اعتبرت تركيا موقف الناتو هشّاً، لكن واشنطن طلبت منها فتح قناة اتصال مع روسيا، لكن ردّ موسكو أتى قاسياً ومتعدّد الأوجه سياسياً واقتصاديا وعسكرياً ودبلوماسياً، واتّهمت تركيا بدعم الإرهاب عبر تهريب النفط واتّباع سياسة متعمّدة لنشر التطرف الإسلامي في بلادها. كما تمّ إلغاء زيارة لافروف التي كانت مقرّرة في 25 تشرين الثاني.
طوّرت كلّ من روسيا وتركيا علاقات فريدة على مدى العقد الماضي من زيادة التجارة الثنائية ترقى إلى حوالي 35 بليون دولار مع أهداف مشتركة لجعلها 100 بليون دولار بحلول العام 2020. غامرت تركيا بمصالحها الاستراتيجية مع روسيا بعد عودتها بالكامل إلى الحضن الأميركي، ممّا يوحي بأنها أسقطت الطائرة الروسية بضوء أخضر أميركي واستندت إلى المعطيات الدقيقة التي قدّمتها روسيا للأميركيين من أجل التنسيق في الطلعات الجوية.
جاءت تصريحات أردوغان بأنه ليس لتركيا أسباب لاستهداف روسيا التي لها معها علاقات متعدّدة الأبعاد، لكن الأخيرة قرّرت نشر منظومة صواريخ الدفاع الجوي اس 400 المتطوّرة وقصفت طائراتها كاراج الشاحنات التي تنقل المساعدات إلى المسلحين في منطقة اعزاز، وأعلنت أنّ أيّ طائرة تحلّق في المجال الجوي السوري ستُعتبر معادية وسيتمّ قصفها… هدّد بوتين بإمكانية استعمال الورقة الكردية ضدّ تركيا.
اعتقد الأميركيون والناتو أنّ ضرب الطائرة العسكرية سيعني، بدون شكّ، ضرباً لهيبة موسكو أمام حلفائها وأمام العالم بعد حادثة تفجير الطائرة الروسية، وسيجعل القيادة عرضة للنقد من داخل بلادها ممّا سيساهم بكسر صورة بوتين التي بدت قوية أمام العالم. لكن القومية الروسية كانت سبّاقة إلى الالتحام من دون أيّ خلل في وجه جرأة أردوغان. ذهب بوتين إلى الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع واعتبر هذا التهديد فرصة في الوقت الذي وقعت فيه تركيا في فخ مشروعها الذي لم تتخلّ عنه. كان الردّ الروسي واضحاً، عملانياً، لا مكان لمنطقة عازلة أو خالية من داعش تملأها أيّ معارضة سورية، بل أنّ الجيش السوري هو من يقوم بذلك، وهذا ما ذكره لهولاند إبّان زيارته… كما ضرب كل الخطوط التي كانت تعتبرها تركيا حمراء.
يبدو أنّ تغيير قواعد الاشتباك لم يكن متوقّعاً من قبل الأتراك وحلفائهم. هل سيكتفي بوتين بالتهديدات الاقتصادية التي يمكن أن يخسر الطرفان من جرّاءها؟ وهل يعتذر أردوغان عن إسقاط الطائرة والتعويض كما طلب بوتين. تبدو موازين القوى مائلة إلى صفّ القيصر الذي لن يتراجع أمام أردوغان الذي يلعب على الوتر القومي، لكنه لن يقوى على الصمود اقتصادياً في الأيام المقبلة. حيث مصالح تركيا الحيوية تتمركز بين إيران التي تختلف معها في الموضوع السوري وروسيا التي تتصدّى لداعش والمعارضة المدعومة من تركيا.