«سينما الخوف والقلق» لأمير العمري كتاباً منوّع المواضيع

كتب حازم خالد من القاهرة: ثمة فاصل رقيق يفصل بين الخوف والفوبيا، فللخوف له من الأسباب ما يبرره، وهو إحساس إنساني طبيعي وضروري في الوقت نفسه، حتى لو انعدم وجوده لدى إنسان ما، ما يعني إخراجه عن كونه طبيعياً ويفقده حاسة التنبه الذاتي للخطر وبالتالي الإقلاع عن نطاق المحظور والقلق. إذن كل ما هو توافق مع الذات يعني توازناً مفضياً إلى الطمأنينة، والخوف جزء من تحقيق معادلة هذا التوازن، وهو إحساس مطلوب في حده المعقول ومكوّن إساسي في العلاقات الإنسانية يحدث ذلك في الأوقات الطبيعية.

أما الفوبيا فهو إحساس يمكن إذا بحث في أسباب تكوينه في ذهن متلبسة تفنيده والقضاء على عوامله الأولية. وبين الخوف الطبيعي والفوبيا هناك صناعة الخوف المفضية إلى الفوبيا وحالات القلق الجمعي، وهي حالة تجاوز مسار القلق والوصول بها إلى رتاج الخوف أو حاجز الخوف، وهي الحد الأقصى من الخوف، حالة أشبه بحالة دفع الأمور إلى حافة الهاوية في المعترك السياسي، وهي حالة قصدية يراد بها إفقاد الخصم توازنه بإحاطته بهالة من الرعب وحصره في حالة إرباك وجعله يتخبط في اتخاذ القرارات .

كان جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، أول من أطلق هذه المقولة النظرية في العمل السياسي في نهاية الخمسينات من القرن الفائت، وهي حالة جمعية ليس المقصود بها استهدافات فردية بل الهدف منها إدخال مجتمع أو مجتمعات بأسرها في حالة كومة الخوف ووضعها قيد أسر القلق، ولا تقف أبعاد الاستهداف عند مجتمعات الخصوم بل تتعداه إلى الرأي العام العالمي بغية استمالة تعاطفه وتوظيفه ضد الخصم. وتعتبر صناعة الخوف والقلق جزءاً من سياسات تقوم برسم خطواتها مؤسسات بهدف خدمة قرارات تصب في إطار سعيها للحفاظ على مصالحها الحيوية المرتبطة بأمنها القومي.

يعتبر المجال الحيوي كما ترسمه الولايات المتحدة لفضاء أمنها القومي الممتد على طول ساحات العالم المجال الأوسع لصناعة الاستهداف، عبر وسائل الإعلام، وبينها صناعة السينما، ويكفي ذكر هوليوود حتى تتبادر إلى الذهن ضخامة مؤسسات هذه الصناعة في ولاية كاليفورنيا. وفي هوليوود هذه أضخم إنتاج سينمائي على مستوى العالم، وتستخدم جميع مؤثرات الصورة والصوت والإخراج الفني والتقني عالي الجودة.

تصب خدمات هوليوود في خدمة أميركا، غير أن الحركة الصهيونية كجزء من مشروع أميركا الرامي إلى سيطرتها على العالم، لها نفوذها السلطوي المهيمن على صناعة القرار الأميركي عبر المال اليهودي، تتمتع بحظوة كبرى في دوائر السينما الأميركية، ولعل أبرز صناعات الخوف حالة «الإسلاموفوبيا» الواسعة الانتشار في أوساط المجتمعات الغربية، التي أفلحت صناعة السينما بجانب وسائل الإعلام الغربية والصهيونية في تخليقها، والعمل على تثبيتها في ذهنية المواطن الغربي في تلك المجتمعات.

في الجانب الآخر، وعلى درجات متفاوتة، سينما العالم العربي، وفي مقدمها مصر وإيران، التصدي للحملات الجائرة التي يتعرض لها الإنسان المسلم عامة والفلسطيني خاصة من خلال إصدار أفلام تحاول تسليط الأضواء على القضية الفلسطينية وإبراز وجه الإسلام المتسامح.

«سينما الخوف والقلق» كان موضوع كتاب الناقد المصري أمير العمري، وهو أحد كتّاب جيل السبعينات ويقيم في لندن. رغم تخرجه في كلية الطب في جامعة عين شمس عام 1976، إلا أنه احترف الكتابة وتفرغ لها منذ عام 1984، ونُشرت مقالاته في عدد كبير من الصحف والمجلات في العالم العربي ولندن، وهو عضو لجان التحكيم في الكثير من المهرجانات السينمائية الدولية. من مؤلفاته: «سينما الهلاك… دراسة في اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية»، «اتجاهات في السينما العالمية… سينما الرؤية الذاتية»، «هموم السينما العربية»، «السينما الصينية الجديدة»، «كلاسيكيات السينما التسجيلية»، «النقد السينمائي في بريطانيا»، «الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب»، «اتجاهات في السينما العربية».

يضمّ الكتاب مجموعة من الدراسات والكتابات النقدية السينمائية كتبها المؤلف بين عامي 2004 و2009، وتتناول بالتحليل عدداً من الأفلام التي ترتبط بظواهر محددة، يجمعها كلها في بوتقة واحدة، إذ تتناول قضايا سياسية وإنسانية معاصرة تدور على خلفية الصراعات والتناقضات والحروب وقمع الإنسان للإنسان ومحاولة التواصل والبحث عن مخرج من حالة الكآبة العامة التي تغشى العالم. يقول العمري: «إن الخوف والقلق هما القاسم والسمة المشتركة لجميع الأفلام التي تصدر عن صناعة السينما العالمية، رغم أنها تتناول مواضيع شتى لقضايا تتعلق بالماضي وأخرى تتجذر في معالجات قضايا آنية بنظرة ترنو إلى المستقبل بغية سبر آفاق المستقبل. والأفلام الإيرانية الستة التي وتناولها الكتاب لا تخلط بين تناول العامل السياسي رغم اختلاف مشارب مخرجيها وتعدد أساليبها واتجاهات مخرجيها الفنية بدرجة ملموسة، فشتان ما بين الرمزية المتوحشة في فيلم «كتابة على الأرض»، والواقعية الخشنة في «تسلل»، والشاعرية الإنسانية في «جنس وفلسفة».

تتراوح الأفلام الأجنبية التي اختارها المؤلف لكتابه في تنوع اهتماماتها، من الفيلم السياسي المباشر مثل «جارهيد» و»روقب» و»معركة حديثة» و»حديقة العقاب»، والفيلم الذي يقدم السياسة عبر ثوب ورؤية رومانسية مثل «البستاني المخلص»، إلى أفلام الحرب في العراق، وأفلام تتناول صناعة «الإرهاب» مثل «مدينة كافيتني» الفليبيني، إلى أفلام تنبذ العنف تماماً وتدينه مثل «ويندي العزيزة». يقول العمري: «القاسم المشترك الأعظم بين هذه الأفلام التي شاهدتها في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية يظل متمثلاً في الخوف والقلق والتوتر والرغبة في تسجيل «رؤية» تكشف وتوضح، أكثر مما تعكس موقفاً صارخاً، يندد ويدين ويشجب. انتقل الخوف مفهوماً من كونه خوفاً وجودياً على نحو ما كان منتشراً في مجتمعات الخمسينات والستينات بسبب القلق من السلاح النووي الذي كان مرده قرب عهده بحادثي إطلاق القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي الواقعتين في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي، غير أن عوامل الخوف والتوتر أضحى مردّها الخشية من أن العالم بات يسير بلا رقيب، أي من تلك القناعات الإنسانية التي ترسخت بعد قرون من الصراعات الرهيبة التي دفعت الإنسانية ثمناً باهظاً لها. فقد اهتزت تلك القتاعات بشدة، وتلاشت فكرة الهدف الإنساني للسياسة. وبعدما كنا نتصور أن الإنسان بلغ «سن الرشد» وأضحى عاقلاً، يرتضي أحكام ما اصطلح على تسميته بـ «القانون الدولي» و»العدالة الدولية»، وإذا بنا نجده يعيش مرة أخرى، كابوساً لا يبدو أن له نهاية قريبة. هذا الكابوس وسمه القهر والاستغلال والسيطرة وتبرير ممارسات الماضي لضمان السيطرة بقبضة من الحديد على الحاضر.

لعل مجموعة الأفلام التي تم تناولها تعكس كيف يرغب السينمائي مجدداً في أن يصبح شاهداً على عصره، وأن يتعامل مع التاريخ بمنظار الراهن، وأن يلقى بإسقاطاته الشخصية والخاصة عليه ويعيد قراءته بعيون جديدة. ولعل فيلم المخرج الدنماركي المشهور لارس فون ترير «نقيض المسيح» يعتبر الأبرز كإشارة إلى الخوف من الحاضر ومن المستقبل، مصوراً رؤيته المرعبة الخادشة للبصر على نحو حاد. إلاّ أن هناك أيضاً تلك الأفلام التي تدين التسلط والقهر والتعصب باسم الدين، كما في «أغورا» و»القيصر». ولا تزال الرؤية التأملية في مصائر الأفراد، أو بالأحرى في معنى حياتنا ومعنى أن يراجع المرء نفسه ومسار حياته وهو مشرف على أعتاب الموت مثلما يفعل كلينت إيستوود في فيلمه الآسر «غران تورينو»، أو مثلما يعبر أرونوفسكي في فيلمه البديع «المصارع»، وهما نموذجان للسينما الأميركية المختلفة، إلى جانب فيلم «في البرية» لشون بن الذي يحلق بنا إلى آفاق إنسانية بعيدة في تأملات ذهنية وفلسفية عديدة.

تعكس الأفلام التي يضمها الكتاب، سواء تلك التي تعرض لموضوع الحرب والإرهاب، أو التي تعبر عن الحرب والإرهاب، أو التي تعبر عن الرغبة في التحرر من القهر ومن القيود، اهتماماً من جانب السينمائيين في العالم من حولهم، والسعي إلى التصالح والتفاهم مع «الآخر»، مثلما يتضح من خلال فيلم «العيون المسروقة» مثالاً. غير أن هاجس التعبير السياسي لا يتناقض مع السعي إلى الابتكار في اللغة السينمائية وتجديد مفرداتها، ولعل أفضل مثل على ذلك تجربة مخرج مخضرم مثل بريان دي بالما في فيلم «روقب» أو مايكل هانيكه في «مخفي». النماذج التي اختارها أمير العمري في كتابه ليست كلها بالضرورة إيجابية، فلعل من المفيد أيضاً لدى اختبار المنهج أو الطريقة التي يتم من خلالها تناول الأعمال الفنية، تناولاً سلبياً أيضاً، كي يعرف القارئ على أي أساس يكون الحكم في الحالتين، وطبقاً لأي معايير ومقاييس.

صدر كتاب «سينما الخوف والقلق» للكاتب أمير العمري صدر لدى الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة في 245 صفحة قطعاً وسطاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى