الفراغ الحقيقي
د.نسيب أبوضرغم
ظهر مؤخراً في ستاتيكو الحياة السياسية اللبنانية مبادرة الرئيس سعد الحريري للتوافق على أن يكون الوزير سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. سوف لن نقارب الموضوع من زاوية انتخاب رئيس أم عدمه، فانتخاب رئيس هو بالمطلق أفضل من أن يكون ثمة فراغ في رئاسة الجمهورية، ولن نقارب الموضوع أيضاً من زاوية أن يكون الوزير فرنجية رئيساً أم الجنرال ميشال عون، فكلاهما في خط محور المقاومة وكلاهما جدير بالمركز.
إننا سنقرب الموضوع من زاوية الفراغ الحقيقي الذي يعيشه لبنان منذ قيامه العام 1943، وأعني به فراغ التمثيل الحقيقي لإرادة اللبنانيين.
قربنا الموضوع من هذه الزاوية، لأن وسائل الإعلام قد نقلت أن الرئيس الحريري قد اشترط لترشيح الوزير فرنجية أن يكون هو رئيساً للحكومة وأن يجري الإبقاء على قانون 1960 الانتخابي النيابي. أن يكون هو رئيساً للحكومة، فالأمر في دائرة الواقعية السياسية، من حيث لازال يمثل أكثرية الطائفة السنية، أما أن يشترط الإبقاء على قانون 1960 الانتخابي النيابي، فهنا بنظرنا تكمن العلة لكل نزوع تطوري أو وطني.
ماذا يعني قانون الانتخابات النيابية الطائفي سواء أكان قانون 1960 أم سواه؟
من الوجهة التاريخية، ثبت أن قانون الانتخابات النيابية هو الحارس الأساس للصيغة الطائفية التي قام على أساسها الكيان اللبناني والدولة اللبنانية.
الصيغة هي التعبير الحديث عن تركيب طائفي – مذهبي – تاريخي كان الجذر الأساس في تغذية معظم حروبنا والفتن التي عشناها منذ مئة وخمسين عاماً.
علّة لبنان في صيغته الطائفية، العلّة المحروسة بالدستور، وبقانون الانتخابات، وبالتالي فإن هذا القانون، هو الأساس الذي يقوم عليه لبنان كياناً ودولة، وهو أيضاً الأساس الذي أنتج للبنان كل مآسيه وحروبه وأزمته ودمّره وهجرة أبنائه.
أن يكون ثمة رئيس للجمهورية أفضل من أن لا يكون لها رئيس، ولكن، هل وجود الرئيس يُلغي شروط الأزمات كلها، ويقدّم الحال الجذري لبناء لبنان حديث يكون فعلاً وطناً لكل أبنائه؟
عرف لبنان في تاريخه رؤساء أقوياء، والمفارقة اللافتة، أن ما من رئيس للجمهورية عُرف بصفة القوة إلا وأنهى عهده بحرب أهلية، كما عرف لبنان أيضاً رؤساء للجمهورية، لم تعطَ لهم صفة القوة، وفعلاً كانوا شهود زور على أزمات ومحن مرّ بها البلد من دون أن يتمكن واحد منهم من إلغاء الأسباب الحقيقية لكل هذه الأزمات المتلاحقة.
إذاً، لبنان برئيس قوي وبغير رئيس قوي، أثبتت التجربة أنه لا ينجو من حربه ومآسيه.
السؤال: أين تكمن العلة؟
العلة ليست بالرئيس، إنما بالسلطة الطائفية التي ينتجها قانون الانتخابات النيابي. هذا القانون الذي يفوق في رسوخه وثباته وقوته أحكام الدستور. ذلك أن لبنان والذي شهد على مدى عمره الاستقلالي تعديلات كثيرة لقانون الانتخابات النيابية، ولكنها جميعاً كانت تحت سقف الطائفية والتمثيل الطائفي، فيما جرى تعديل الدستور مراراً وبالبساطة ذاتها التي تُعدّل بها القوانين، ولم يكن هذا التعديل مثار نزاع حقيقي واسع في البلاد.
لنعتبر أن انتخاب الوزير فرنجية، أم العماد ميشال عون قد تمّ، وأصبح أحدهما رئيساً للجمهورية، مع اشتراط أن لا يُمسّ قانون 1960، ماذا يمكن أن نتصوّر من إصلاح للتمثيل الحقيقي، أو من نقل البلد من حالة المعتقلات الطائفية إلى حالة الشعب الواحد؟
قانون الانتخابات النيابية للعام 1960 والقوانين السابقة عليه المماثلة له، هي:
1 – العامل المعطّل للتمثيل الحقيقي للبنانيين في البرلمان.
2 – العامل المؤسس لكل الفتن الطائفية التي عرفها البلد.
3 – العامل المنشئ للمعتقلات الطائفية والمذهبية التي فرض على اللبنانيين الانزواء فيها.
4 – العامل المعطّل لكل إصلاح إداري أم سياسي أم اقتصادي أم مالي…
5 – العامل المؤيد للإقطاع ولاسترقاق اللبنانيين.
6 – العامل القاتل للديموقراطية، إذ لم تكن الديمقراطية في لبنان يوماً كما ينبغي أن تكون، بفضل دعم الطائفية وجعلها روحاً لدستورنا وقوانيننا وحياتنا.
7 – العامل المولد للمجتمع الطائفي في ثقافته واقتصاده وسياسته المحمي بالدستور والقوانين.
8 – العامل المعطّل لمؤسسات الرقابة وأجهزتها.
9 – العامل المانع عن لبنان وحدته الاجتماعية وهذه أكثر نتائج القوانين الطائفية خطورة .
أن يأتي الجنرال عون أم الوزير فرنجية إلى سدة رئاسة الجمهورية في ظل شرط الإبقاء على قانون الانتخابات الطائفي 1960 والذي يخالف اتفاق الطائف نصاً وروحاً، يعني سيكون أي منهما شاهد زور، عاجزاً عن إيقاف مجزرة ذبح الوطنية في لبنان الجارية منذ العام 1943 بفعل قوانين الانتخابات الطائفية، سيكون عاجزاً عن لجم حيتان المال التي هي أقوى مما يُظنّ، لأنها محصنة بالدستور الطائفي والقوانين الطائفية، وبالتالي لن يكون بمقدور أيّ منهما، أن يوقف مسار عرفناه بفجور كامل منذ العام 2005، حيث استجلبت السلطة القضائية الأجنبية لتسلب السلطة القضائية اللبنانية حقها، في النظر باغتيال الرئيس الحريري، وبخلاف الدستور، ولم يكن رئيس الجمهورية آنذاك من صفّ الرؤساء الضعفاء، ورغم ذلك، استباحوا الدستور، وفرضوا على لبنان انتداباً أجنبياً قضائياً، واستباحوا المال العام، وعطّلوا المؤسسات، ولم يستطع أحد أن يحاسب أحداً، لماذا، لأن كل هذا الفساد محميٌّ بالطائفية، والطائفية هي روح الصيغة، والصيغة يحرسها الدستور وقانون الانتخابات النيابية، وهؤلاء جميعاً أبناء الصيغة.
لبنان بحاجة لأن يُسنّ له قانون انتخابات نيابية على قاعدة النسبية وخارج القيد الطائفي، ينشر في الجريدة الرسمية ويصبح بعدها نافذاً.
وفي لحظة نفاذه يجتمع المجلس النيابي وينتخب رئيساً للجمهورية. حينذاك، نكون أمام جمهورية قابلة للحياة، وأمام رئيس حارس لها، لتكون للبنانيين كلهم على السواء، من دون تمييز بينهم، كما تنص عليه المادة السابعة من الدستور، المادة التي لم تُحترم بعد.
املأوا الفراغ الحقيقي القائم في آليات إنتاج السلطة الديمقراطية في لبنان، فيأتي بعده انتخاب رئيس للجمهورية استكمالاً لمسار عهد جديد للبنان واللبنانيين.