المسافة بين القول والفعل بدعم الانتفاضة
عباس الجمعة
كثيراً ما نشكو من أمور تمرّ، إلا أنّ إرادة السياسي والمثقف والإعلامي تبقى مشدودة دائماً إلى الواقع الذي يعيش بين ظهرانيه، ومهما حاول المقاومة والترفع عن صغائره، فإنه يبقى، بفعل ما يتعرض له، يشكل في بعض الأحيان صدمة نتيجة عدم اللامبالاة من الآخرين، لكننا دائماً بحاجة إلى التفاؤل الإيجابي، كي نستطيع الاستمرار، وعلينا برمجة الغضب الذي يعتمل ويغلي في داخلنا من هول ما مرّ علينا خلال هذه السنوات الصعبة، من شظف الحياة وقسوتها، وضغط التفاصيل التي تقتلنا أحياناً، أو تفاصيل جديدة تدخل حياتنا مشبعة بالحب والأمل تُحيي فينا روحاً تكاد تختنق.
من هنا نحن نقول إنّ السياسي والكاتب أو الإعلامي يبني علاقات اجتماعية سياسية حضارية، ومن الصعب أن يبقى متعصباً لفكره، ونحن اليوم أمام واقع بحاجة إلى التطور الفكري الذي يساهم في دعم الانتفاضة الفلسطينية على أرض فلسطين.
إنّ ما يتعرض له السياسي والكاتب والمثقف في بعض الأحيان من ضغوطات هنا أو هناك لا تبرِّر القطيعة، بل نحن علينا تقويم وتصويب الخطأ، لعلّ المهمة الملحة التي يتوجب أن يتصدى لها عموم المناضلين في هذه المرحلة، هي مهمة ردم الفجوة بين القضايا السياسية والفكرية والحزبية. ففي ظلّ ما يتعرض له الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة من هجمة إمبريالية وصهيونية وإرهابية تكفيرية هدفها الأساسي تفتيت المنطقة وشطب القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وهذا بات واضحاً، أنّ التصوّر الصهيوني يتمسك بلاءات خمسة هي: لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي يفرض على السياسيين والكتاب والإعلامين أعباء ومسؤوليات كبرى ارتباطاً بدورهم في المرحلة الراهنة عموماً ودورهم المستقبلي الطليعي على وجه الخصوص، وهذا يتطلب إسهام الجميع بكلّ مسؤولية ووعي من أجل بلورة الأسس الفكرية والسياسية لمواجهة الأبواق الإعلامية التي تحاول النيل من حقوق الشعب الفلسطيني والحقوق العربية.
ثمة من يقول: ما يهمّنا من الكتّاب الإعلاميين ما يكتبونه، ونحن نسألهم: أليست الكتابة شكلاً من أشكال مخاطبة الشعوب؟ هل يكتب الكاتب والإعلامي والسياسي ما يصبو إليه في سلوكه اليومي؟ أليست الكتابة أهم الأهداف للكلمة التي تحدّد مساراتها وآليات عبورها لتظهر كما ترنّ في مسامعنا، فالكلمة لها دورها في واقعنا بعد ما وصلت إليه القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة بسبب الوضع العربي الرسمي التابع والخاضع للسياسات الأميركية. إنّ الانقسام الداخلي الكارثي لم تقتصر آثاره الضارة على قضيتنا ومستقبلها فحسب، بل أيضاً، على الموقف الدولي عموماً والأميركي خصوصاً، الداعم بلا حدود لدولة الكيان الصهيوني باعتبارها الحليف الاستراتيجي له في المنطقة.
ونتيجة لكلّ هذه المعطيات يمكن القول إنّ الشعب الفلسطيني لمس بشكل واضح في هذه المرحلة البالغة الخطورة، أن لا حلّ وسط مع الاحتلال، الذي يرفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بعد مفاوضات عبثية برعاية أميركية ورباعية نقلت الشعب الفلسطيني من قاع إلى قاع أشدّ عمقاً وانسداداً، وفي ظلّ حالة تراكمية من القلق والإحباط، اتخذ شباب وشابات فلسطين المبادرة فكانت شعلة الانتفاضة من القدس لتشمل كلّ أرجاء فلسطين وعلى وجه الخصوص الضفة الفلسطينية حيث وحدت الانتفاضة الشعب الفلسطيني خلفها، رغم حالة إنهاء الانقسام وأكدت على التمسك بالثوابت الوطنية، خاصة أنها تمتلك رؤية الاستمرار في النضال بالحجر والسكين والمقلاع وعمليات الدهس.
أثبتت التجربة منذ «أوسلو» فشلها بسبب استنادها إلى وعود أو أوهام الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب الرهان على عملية التفاوض العبثي مع دولة الاحتلال الصهيوني في ظلّ نظام عربي ودولي شبه مرتهن لسياسة العولمة والتحالف الإمبريالي الصهيوني، حيث بات واضحاً أنّ الحلّ المرحلي في ضوء هذا الارتهان، أو ما يسمى بالدولة القابلة للحياة، لن يحقق سوى «دولة» فاقدة لمقومات السيادة الفعلية، ارتباطاً بقبولها الإكراهي بما تقرِّره دولة الاحتلال، مدعومة من قبل الإمبريالية الأميركية.
أمام كلّ ذلك، نرى أنّ الانتفاضة الباسلة الثالثة التي أصبح عمرها شهرين، بما تقدمها من تضحيات، ستعمل على تعديل ميزان القوى لكي تصبح ممكنة، وميزان القوى ليس مرتبطاً كلياً بالوضع الدولي، بل مرتبط بقوى الشعب وما تفرضه من تحولات الانتفاضة إلى جانب الترابط مع نضالات الشعوب وأحزابها وقواها ومقاومتها على وجه الخصوص.
إنّ ما ترتبه الإمبريالية والصهيونية للمنطقة عموماً وللقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ليس قدراً لا يردّ، فهذا الواقع لن يكون أبدياً ونهائياً، وبهذا المعنى فإنّ الانتفاضة وقوى المقاومة في المنطقة وبالاستناد إلى طبيعة المشاريع المعادية وتناقضها الجذري مع حقوق ومصالح شعبنا وأمتنا، قادرة على الفعل والمجابهة، بما يؤسِّس لمرحلة نهوض جديدة أكثر نضجاً وأكثر استجابة لحركة الواقع الموضوعية والذاتية وطنياً وقومياً.
إنّ المرحلة تتطلب عقول وسواعد الجميع، كما تتطلب الإرادة والتصميم على استمرار النضال ومواصلة العمل لنقل مشروعنا الوطني إلى مستوى التحقيق المادي الملموس، وهذا الأمر يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي ككل، شرط أن يكون النضال الفلسطيني في طليعته، انطلاقاً من أنّ الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضدّ السيطرة الإمبريالية بما فيها دولة الاحتلال، كونها أداة في مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية.
إنّ مهمّة السياسيين والإعلامين والمثقفين هي توضيح المسار الواقعي، بمعنى وعي الواقع، ولأننا معنيون بالنشاط الواقعي، من الضروري تحديد التصور الذي يشمل الأهداف السياسية المرحلية والاستراتيجية، المتعلقة بتطور مسار حركة النضال الوطني والقومي، الأهداف التي يتوقف على حلها تطور المجتمع الفلسطيني عموماً والطبقات الشعبية خصوصاً، في سياق النضال القومي، وهذا ما نتحدث عنه في هذه المرحلة.
من هنا، نرى أنّ المُتابع للشأن العربي هذه الأيام يلحظ أنّ الفضائيات العربية ووسائل الإعلام وكتاب المقالات والنخب القومية لا يتطرقون إلى انتفاضة الشعب الفلسطيني إلا من باب التغطية للأخبار التي تبثها وكالات عالمية لأنها منشغلة بما يجري في المنطقة، بينما الإعلام المعادي ينقل أخبار الانتفاضة الفلسطينية ويستقطب النخب والسياسيين للحديث عنها لكن كلّ على طريقته، فالبعض يشوه الشعب الفلسطيني وآخرون مع وضدّ «إسرائيل»، والمحصلة أنّ قضية فلسطين باتت أكثر حضوراً في وسائل الإعلام العالمية من نظيرتها العربية.
ومن هنا نرى أنّ قناة «الميادين» تلعب دوراً مهماً في دعمها لفلسطين، وهي تجد لها حضوراً قوياً في الإقليم وعلى حساب الآخرين، ولا نبالغ القول إنّ بعض الفضائيات العربية المحسوبة على أنظمة التطبيع مع العدو تسيء إلى الانتفاضة الفلسطينية وبعض الكتاب العرب يشتمون بطريقتهم ما يحدث في فلسطين.
في ظلّ هذه الأوضاع، فإنّ الحاجة إلى الإعلام الفلسطيني، كحالة ضرورية لتجربة هذا الشعب المحتل الفريدة كأحد أدوات المقاومة الفاعلة في وجه آلة الإعلام والتزييف الصهيونية.
حان الوقت للعمل من أجل ترسيخ قيم جديدة، بعقلية متطورة تحكم واقع التعبير الإعلامي، وكلّ ذلك يستدعي المزيد من الجهد الإعلامي والصحافي.
فما أحوجنا إلى المواقف التي تبني الجسور بين العقول والنفوس. وما أحوجنا إلى الفكر في صياغة العبارات الصحيحة من المثقفين والباحثين، كدليل للحاضر ومنارة للمستقبل، لنقدم إلى شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية التي تقدم آلاف الشهداء قراءة جادة تستند إلى المواقف والرؤى السياسية والفكرية والتجارب الغنية بالعبر والدروس حتى تكون حافزاً لشباب الانتفاضة وداعمة لهم وهم يحملون أهداف النضال الوطني التحرُّري الفلسطيني وأهداف النضال القومي بدرجة عالية من الموضوعية والحسّ العالي بالمسؤولية من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة.
إنّ الكلمة من قوة وسحر بأي قالب صيغت، وبأي أسلوب طُرحت، فحتى نحسن الفعل لا بدّ أن نحسن القول والفكرة المتضمنة له، لأنّ في ذلك خير لنا ولغيرنا، وإنّ أبسط مسؤولياتنا أمام شعوبنا وأمام التاريخ ، الاستبداد وأن نوقف حالة الارتداد عن حرية الفكر خضوعاً لثقافة الانصياع من أي اتجاه جاءت ، ولنبدأ بدلاً منها ثقافة الإبداع من أجل الحرية التي هي أرضية النضال الذي يُخاض بكل أدواته وبكلّ مقوماته الفكرية والسياسية والكفاحية، فذلك هو الدفاع عن حرية الرأي مهما اختلفت أشكاله ومهما بلغت حدّته.
إنّ تطوير أساليب أو أهداف أو تعميق رؤية متطورةٍ تقفز بأصحابِها إلَى الأمام، فالفكــر المتجدّد، لا يتوقف عند حدّ معين ولا يحصر نفسه في قالب واحد جامد، وكم نحن في حاجة إليه اليوم وغداً لدفع عمليــة التطـويــر قدماً إلى الأمـام والبعض يعتقـد أنّ هذا الفكـــر المتجــدِّد مرتـبـط بالســن أي يغلـب وجــوده عنــد الشــباب وهذا غير دقيق تماماً، فبعض الأشخاص يدخلون سن الشباب وقد تحجرت عقولهم باكراً، ولا نكون مغالين إذا قلنا إنّ إبداع الإنسان وعمله أهم ثروة لأنّ الثروة البشرية لدينا ليسـت كماً فحسب، إنما هي تراث وتاريخ وحضارة وما ينتج عنها من فكر وإرادة وتصميم.
ختاماً، لا بدّ من القول إنّ الإعلام يلعب، بكافة أشكاله ووسائله، دوراً هاماً وأساسياً في حدّ فاصل بين المهنية والوطنية موجود في عقل الإعلامي والكاتب فقط، مع الموازنة بين نقل الأخبار والأحداث في شكل واضح، ومهما يكن الجدل الحاصل في الساحة الإعلامية حول دور الإعلامي المهني والوطني، تبقى لأي إعلامي كلمته الأولى في نقل الحقيقة إلى كل العالم، وهو الدور الذي يعجز الثائر عن تحقيقه لقضيته ووطنه.
كاتب سياسي