المؤرّخ سهيل رستم… كان قومياً اجتماعياً بامتياز
جان دايه ــ «النهار»
رحل المؤرخ والمهندس الزراعي سهيل رستم عن 69 سنة أمضاها في حقول الهندسة الثقافية حيث كانت إحدى غلالها أكبر المكتبات الخاصة وأغناها، إن لم يكن في دمشق التي توفي فيها، ففي وادي النصارى حيث ولد في إحدى قراه الجميلة «المقعبرة»، بعدما أصدر دزينة كتب تاريخية وفكرية سياسية، وقبل أن يصدر أربعة كتب هي الآن «تحت الطبع».
على ذكر الوادي النصراني الذي غيّر اسمه جمال عبد الناصر ليصبح «وادي النضارة» إبان الوحدة المصرية السّورية، فالمؤرخ الراحل لم يحتفل بقرار التغيير لأنه شكلي، ناهيك بأن المؤرخين منحازون للأسماء التاريخية، في حين كان يحتفل كل عام، وكدت أقول كل يوم، بأنطون سعاده الذي أقنع شريحة كبيرة من نصارى الوادي كي يفصلوا بين دبس الدين وطحينة الدولة، اللذين بقيا متداخلين خلال العهد الناصري.
حين كنتُ أسأله عن سرّ تسميته بـ«الوادي» المؤلّف من بلدات وقرى، منها قرية «المقعبرة»، التي تعلو مئات الأمتار عن سطح البحر، يكتفي بترديد عبارته المعهودة: «الله محييك».
كان المؤرّخ رستم مؤمناً بأنطون سعاده كمصلح قومي وحدوي واجتماعي علماني، وأخلاقي مناقبي، لم تتخطَّ ثروته لحظة إعدامه الأربعمئة ليرة لبنانية. ولكنه لم يكتفِ برفع راية زوبعته أو بكتابة دراستين أو كتاب يتيم عنه. كان معجباً بقلّة من الباحثين غير السعاديين الذين أنصفوا سعاده المصلح المفكر، ومنهم الدكتوران ناصيف نصار الذي أضاء على فلسفته في كتابه «طريق الاستقلال الفلسفي» وعلم اجتماعه في كتابه «تصورّات الأمّة المعاصرة»، وكمال يوسف الحاج الذي نشر في مجلّة «المجلة» البيروتية العدد الصادر في غزة عام 1958 مقالاً كبيراً عنوانه «سعاده ذلك المجهول»، وأهداه «إلى الذين لست منهم علّهم يدركون غور مداه». ولأنه كان متعجباً من اتهام أكثرية الباحثين والمثقفين الشوام لسعاده بأنه ضد العروبة، واتّهام نظرائهم اللبنانيين لتكرارهم معزوفة اتهامه بمعاداة لبنان، وبالغ التعجّب من بعض الباحثين والمثقفين القوميين الذين لم يسبروا غور مدى زعيمهم رغم مرور 111 سنة على ولادته، و66 سنة على اغتياله الرسمي، فقد راح يزرع جريدة «النهضة» الدمشقية بسلسلة مقالات سياسية وفكرية متمحورة على سعاده السياسي والكاتب وقد ضمّنها مقتطفات من كتاباته الفكرية وبياناته السياسية. وعندما ألحّ عليه أصدقاؤه ومنهم عميد الثقافة الأسبق في الحزب الأديب فهد الباشا والداعي، أن يعيد نشر ما نشره في الجريدة، في سلسلة كتب، فتح ورشة إصدار الكتب من غير أن يغلق ورشة نشر المقالات الدراسات. فصدر له بين 2000 و2014، 12 كتاباً: «سيناء» 2000 ، «جذور العولمة الأميركانية» 2010 ، «الفكر القومي الاجتماعي» الجزء الأول 2011، «الفكر القومي الاجتماعي» الجزء الثاني، 2012، «صيانة العقيدة والحركة» 2013، «العالمية في الفكر السوري أنطون سعاده نموذجاً» 2013، «سوريون في التاريخ» 2013، «سعاده والسياسة الفرنسية» 2013، «النظام المركزي ووحدة العمل قضية نعمه تابت وأسد الأشقر ورجالات أخرى» 2014، «سعاده والسياسة التركية» 2014، «الأزمة في الشام» 2014، «موقف سعادة من السياسة الأميركانية وجامعة الأمم والمؤتمرات الدولية» 2014.
من المرجّح انه كان كحّل عينيه بالكتب العتيدة الأربعة الآتية أو ببعضها لو لم يرحل فجأة وهو في عزّ نضجه ونتاجه الثقافيين، وهي: «ملامح تاريخية في كتابات سعاده»، «لواء الاسكندرون»، «نظرة سعاده إلى الصهيونية العالمية واليهود»، و«نظرة سعاده إلى العروبة والعالم العربي».
أختم بالتنويهات والملاحظات الآتية:
1. كان، وهو المناقبي بامتياز، حزيناً من تراجع منسوب المناقبية في حزبه ولسان حاله يذكّر بقول سعاده إن «القومي الاجتماعي إذا سار في الشارع يُشار إليه بالبنان» كمنوذج للإنسان المناقبي.
2. كان، وهو المثقف بامتياز، غاضباً من رجحان كفة السياسة أم السين الصغيرة، على كفة الثقافة، في الحزب الذي قال عنه أحد خصومه كمال جنبلاط إنه حركة ثقافية في الدرجة الأولى.
3. رغم حزنه وغضبه، نتيجة السببين الآنفين وأسباب أخرى، فقد سمعت منه انتقادات عادلة ومن العيار الثقيل في حق بعض المسؤولين الحزبيين، لكنه بقي يدفع اشتراكاته ويحضر الجلسات الدورية في الوحدة الحزبية التابع لها.
4. إذا عدنا الى كتبه نجدها كلها سعادية، ولكنها تندرج في لائحتين، أولى، تناول فيها مباشرةً سعاده وعقيدته ومواقفه السياسية، وثانية استعار فيها منهج سعاده ونتاجه، وكتب عن سوريّة سيناء لا مصريتها، وعن المبدعين السوريين في التاريخ القديم في الفكر والسياسة والشعر والفن، أمثال أليسار الصورية وأمنيبوس الحمصي وانتيباس الصيداوي وأوروبا شقيقة قدموس وايناس الغزي وزينون الرواقي القبرصي.
4. باستثناء الباكورة، صدرت سائر كتبه خلال الحرب الدائرة منذ اربع سنين في الجمهورية السورية حيث يقع منزله في حي «جوبر» المشتعل. اللافت أنه لم يترك المنزل على رغم الهدايا الصاروخية التي كان يرد عليها بالكتب.