الاقتصاد التركي ولعنة «سوخوي»…
إنعام خرّوبي
قبل أيام، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يفرض مجموعة واسعة من العقوبات الاقتصادية على تركيا. وذكر المرسوم، الذي دخل حيّز التنفيذ على الفور، أنه سيتمّ فرض حظر على رحلات الطيران العارض من روسيا إلى تركيا، وسيكون على شركات السياحة الروسية التوقف عن تنظيم رحلات إلى تركيا، مشدّداً على أنّ أيّ واردات تركية غير محدّدة المصدر ستعتبر غير قانونية، بالإضافة إلى وقف أو تقييد أنشطة اقتصادية لشركات وأفراد أتراك.
وطلب بوتين من الحكومة إعداد قائمة بالمنتجات والشركات والوظائف التي ستسري عليها القرارات، فيما يجري تطبيق بعض هذه الإجراءات بالفعل بشكل غير رسمي. وبموجب المرسوم الرئاسي سيتم منع استقدام الأيدي العاملة التركية اعتباراً من مطلع العام 2016، مع استئناف العمل بنظام «الفيزا» مع تركيا من جانب واحد، اعتباراً من بداية العام المقبل.
في واقع الأمر، هناك المزيد من الأوراق في جعبة روسيا، وإذ لا يخفي المراقبون أن يكون للقرارات والعقوبات تأثير على الاقتصاد الروسي، إلا أنّهم يرون أنّ الخسائر التي قد يتكبّدها لا تقارن بتلك التي ستلحق بالاقتصاد التركي في حال استمرار التوتر في العلاقات بين البلدين.
ويرى متابعون أنّ موسكو ليست في وارد اتخاذ قرارات ارتجالية ومتهوّرة في هذا الشأن، بل هي تعمد إلى انتهاج سلوك «الردّ التدريجي» حرصاً على عدم استعداء ومعاقبة الشعب التركي في سياق ردّها على ما اعتبرته «طعنة في الظهر» من جانب القيادة التركية. ومن المُلاحظ أنّ روسيا لم توقف كما كان يتوقع البعض كلّ العمليات التجارية والتبادل مع أنقرة، إنما هناك خيارات بالنسبة إلى بعض السلع التي تستطيع الحصول عليها من دول أخرى. كما أنّ قطع العلاقات الاقتصادية جذرياً ليس بالأمر السهل، نظراً إلى العلاقات الواسعة التي تربط البلدين، وخصوصاً بالتبادل التجاري الذي كان من المتوقع أن يصل خلال أربعة أعوام إلى مئة مليار دولار. فالميزان التجاري بين البلدين متوازن وقد يتضرّر الطرفان من قطع العلاقات بالكامل. ويبدو من خلال الإجراءات والعقوبات التي اتخذت، حتى الآن، أنّ المبادرة لا تزال في يد موسكو على هذا الصعيد، وأنّ العقوبات ستكون أكثر إيلاماً للاقتصاد التركي في عدد من القطاعات، كقطاع البناء الذي يعمل فيه نحو 60 ألف عامل تركي في عدد من الشركات الروسية. ومن المعلوم أيضاً أنّ الشركات التركية كانت قد بنت سابقاً مشاريع ضخمة في سوتشي مجمعات سياحية ورياضية ، كما أنّ روسيا تحتلّ المرتبة الثانية من حيث عدد السياح إلى تركيا، بحوالي 4.5 مليون سائح روسي سنوياً، الأمر الذي قد يؤدّي إلى خسارة تركيا حوالى عشرة مليارات دولار من إيرادات القطاع السياحي، ناهيك عن القطاعات الأخرى، ولا سيما الطاقوية، حيث إنّ روسيا كانت وعدت تركيا ببناء محطات نووية على شاطئ المتوسط وفي مناطق أخرى بقيمة 20 مليار دولار ما كان سيؤمّن لتركيا استقلالية في مجال الطاقة بعيداً عن استهلاك مواد أخرى كالنفط والغاز.
وفي سياق الردّ التدريجي، على التصرّف التركي «الأرعن» بإسقاط الطائرة الروسية «سوخوي» ودعم أنقرة للمجموعات الإرهابية في المنطقة، إلى جانب سلوك الدعاة الأتراك في الدول الإسلامية ضمن الفضاء السوفياتي السابق، يتوقّع المراقبون أن تتجه القيادة الروسية نحو اتخاذ قرارات أكثر جذرية، ولا سيما في مجال الاقتصاد، لأنها تدرك مدى خطورة هذا النوع من القرارات، علماً أنّ هناك قطاعات تركية مهمّة تعتمد تماماً على روسيا، وخصوصاً تلك المتعلقة بالغاز والطاقة النووية.
وعلى صعيد المنتجات الزراعية، ورغم أنّ تركيا حاولت على لسان وزير الزراعة فاروق جليك الإيحاء بأنّ «أيّ إجراءات تجارية تتخذها روسيا ستضرّ أكثر بالمزارعين الروس»، إلا أنّ الواقع مختلف تماماً، ذلك أنّ الإنتاج الزراعي التركي يُصرّف داخل روسيا، ما يعني أنّ الضرر الأكبر من تلك السياسة سيترتَّب على بلاده.
على الجهة المقابلة، هناك من يرى جوانب إيجابية لهذه العقوبات على روسيا، على اعتبار أنها ستؤدّي إلى استنهاض الزراعة في روسيا والعمل على زراعة بعض المحاصيل التي تصلح لها التربة الروسية في مناطق محدّدة، وإنْ كانت المسألة تتطلب وقتاً، علماً أنّ الطقس في الاتحاد الروسي ليس مناسباً لكلّ أنواع الزراعات.
ومع ذلك، يلفت المعنيون في روسيا إلى أنّ الأسواق العربية البديلة، موجودة وأهمّها في مجال المنتجات الزراعية وبعض الصناعات الخفيفة، خصوصاً مع المغرب ومصر، وقد لمس المسؤولون الروس خلال زياراتهم إلى القاهرة تلميحات من القيادة المصرية بإمكانية أن تكون مصر بديلاً في هذا الصدد، بعد الإشارات الأخيرة على تجاوز التداعيات السلبية لحادثة سقوط الطائرة الروسية المدنية في شرم الشيخ المصرية على العلاقات بين موسكو والقاهرة.
تمضي روسيا التي أعلنت، خلال اجتماع قمة العشرين، على لسان رئيسها لائحة بأسماء دول تدعم المجموعات الإرهابية، ومن بينها السعودية وتركيا وأستراليا وغيرها من الدول، وكذلك أغارت على قوافل تهرّب النفط السوري الذي يستولي عليه «داعش» إلى تركيا، في سياسة تصعيد مُمنهج ضدّ الحكومة التركية. فهي تخاطب أنقرة، حتى يسمع «الناتو» أنّ المساس بمصالح روسيا ومواطنيها ليس بالسهولة التي تظنّها بعض العواصم الإقليمية والدولية. وحين يصرّح بوتين أنه لن يكتفي بالتدابير الاقتصادية بـ «سلاح الطماطم»، فهذا يعني أنّ بانتظار تركيا أردوغان المزيد من الإجراءات العقابية.
على ما يبدو، فإنّ الحساب المفتوح لأردوغان مع الكرملين، قد آن أوان دفع مستحقاته، ويدعو البعض في موسكو إلى تفعيل «سياسة حافة الهاوية» النووية ضدّ أنقرة رغم ما يترتب عليها من مخاطر، فيما يرى البعض الآخر أنّ خيار دعم الأكراد في المنطقة هو الخيار الأنسب لكونه قليل الكلفة وبـ «صفر مخاطر». فإلى أين تتجه الأمور بين روسيا بوتين وتركيا أردوغان؟