معرض باريسيّ لغوستاف كاييبوت… نصير الانطباعية ورسّام الشرفات العالية
تعود الانطباعية مجدداً إلى الواجهة، وتحتفي بها باريس إما كحركة فنية متميزة، أو عبر أحد أعلامها البارزين، ويتم ذلك عادة أحد المتاحف. واليوم يُخصص معرض فني إلى 20 تموز الجاري لغوستاف كاييبوت 1848 1894 ، إنما في البيت الذي شهد نشأته وتفتّق مواهبه، ويحتوي على مجموعة كبرى من أعماله، بينها ثلاث وأربعون لوحة أنجزها في بيته هذا، جنوب باريس.
درس غوستاف كاييبوت الهندسة وشغف بالرسم فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة في باريس حيث تتلمذ على ليون بونّا، وتعرّف منذ 1874 إلى إدغار دوغا وكلود مونيه وبيار أوغست رنوار، وساعدهم في العام نفسه في تنظيم أول معرض للانطباعية التي لم تتشكل بعد كحركة متكاملة. ذلك أن كاييبوت من أسرة ميسورة كوّنت ثروتها من تجارة النسيج ثم من الممتلكات العقارية زمن البارون هوسمان الذي أعاد تهيئة باريس بطرازها الحالي.
عازف البيانو
كان في الثانية عشرة من عمره عندما اختار أبواه تلك القرية عند ضفاف وادي اليير مقرّاً للإقامة الصيفية. وجد فيها كل ما تتوق إليه نفسه من هواء طلق وضوء مشرق ونسيم عليل وصداح طيور وخرير واد تمخر عبابه المراكب وتقام على عدوتيه أماسي الاستجمام. في ذلك الموقع البديع بدأ يعانق الرسم، ودأب على التقاط كل ما يحيط به من مناظر خلابة لا تعدمها القرية، ومع التحاقه بمدرسة الفنون والتقائه رسامين شبّاناً تجمعهم رغبة التمرّد على الأنماط الأكاديمية وتقديم ثيمات معاصرة، أمكن له أن يطور تجربته ويبدع أعمالاً ذات أسلوب متفرد، لكنها لم تلق ما كان يأمله من استحسان، إذ رفض الصالون الرسمي عرضها عام 1875، ما دفعه، بتشجيع من رنوار، إلى تحويل وجهتها إلى المعرض الثاني للانطباعيين الذي أقيم 1876. هناك شارك ببعض أعمال أبرزها «شاب يعزف على البيانو»، «شاب عند نافذته»، «غداء»،«بعد الغداء» وخاصة لوحة «سحّاجو الأرضية الخشبية»، فأضحى وفياً لذلك المعرض، حريصاً على تنظيمه وإنجاحه حتى دورته السابعة بالمساهمة الفنية والدعم المادي بفضل ما ورثه عن أبيه عام 1873.
اليوم تعتبر اللوحات التي رسمها كاييبوت في بيت أهله في منطقة اليير جزءاً مهماً من الثورة الفنية التي صنعها الانطباعيون. لم تنل أعماله تلك رضا إيميل زولا، رغم وقوفه مع الانطباعيين، إذ عاب عليها وضوحها الشفاف وإفراطها في تصوير الواقع بأدق تفاصيله. ثم تغيّرت نظرته بتطور أدوات كاييبوت الفنية، إذ كتب يشجعه في المعارض اللاحقة، ثم أثنى عليه في آخر معرض انطباعي شارك فيه عام 1880 بقوله: «السيد كاييبوت فنان مثابر، في سَبكِه بعضُ جفاف، لكنه يملك جرأة الأعمال الكبرى، ويداوم البحث بمنتهى الصرامة».
ترك كاييبوت نحو خمسمئة لوحة صاغها بأسلوب أكثر واقعية من أسلوب أصدقائه الانطباعيين، وبرع خاصة في تصوير مشاهد من شوارع باريس كان يلتقطها من الشرفات المرتفعة، ومشاهد من الحياة العمّالية في الضواحي الباريسية، ومناظر طبيعية ممثلة في الحدائق والبساتين، ومناظر مائية سواء من وادي اليير حيث سكنه ومشغله، وإن في أوقات متباعدة، أو على ضفاف نهر السين عند ضاحية أرجنتوي شمال باريس حيث يقام سباق الزوارق والمراكب. والمعروف أن كاييبوت كان مولعاً بالزوارق ويملك بعضاً منها ويعمل على تطوير سرعتها، بل صنع نماذج متطورة فاز بفضلها في مسابقات عالمية عديدة.
تلك الأعمال كلّها تبرّع بها كاييبوت للدولة منذ عام 1876، في وصية اشترط فيها ألا تودع أعماله في المخازن أو متاحف المناطق بل في متحف لوكسمبور ثم في متحف اللوفر، وذاك ما رفضه الأكاديميون بعد وفاته عام 1894، في نطاق تصديهم للفن الانطباعي برمّته، بوصفه فنا «غير سليم» على حدّ تعبيرهم. ورغم ترخيص الدولة عام 1896 في اقتناء ما يمكن عرضه في متحف لكسمبور من تركة كاييبوت، رفضت المتاحف الوطنية القرار، ولم تقتن بعد جدل حامٍ ترامت أصداؤه حتى منبر مجلس الشيوخ، سوى بعض لوحات لدوغا ومونيه ورنوار وبيسارو وسيزلي، ولوحتين فحسب لكل من سيزان وكاييبوت، قبل أن يعترف نقاد الفن ومؤرخوه بقيمة فناني تلك الحركة.
الأعمال المعروضة هي تلك التي أنجزت هذا المكان، وأشهرها ثلاثيته التي رسمها عام 1878، وتتكون من «صيد بالصنّارة»، «مستحمون على ضفاف وادي اليير» و«مجذافيات على اليير»، فهي تلخص فنه وتفصح عن فلسفته. وفي إمكان الزوار أن يجولوا في القرية للوقوف على الأماكن والعناصر والموجودات التي نقلها إلى القماشة. وأضحت القرية منذ 1973 ملكا لبلدية اليير، فرمّمتها وهيّأتها مثلما كانت في عهد كاييبوت، حيث بيته الأبيض الكبير، وقريته التي كان يسميها «القرية المزينة»، وغابة البرتقال، ومكان حفظ الثلج، وبستان الخضار، والمتنزه الشاسع المحاذي للوادي. هذه الملكية وقع تسجيلها ضمن «المعالم التاريخية» فهي، على غرار بيت مونيه بجيفرني، معقل مهمّ من معاقل الانطباعية.