القامشلي… المدينة التي ستأكلها الفئران!؟ ٢/١
نظام مارديني
تذكرني الأحداث المربكة في مدينة القامشلي بمسرحية المخرج الصديق أحمد شويش: «حكاية المدينة التي أكلتها الفئران» التي عرضت في المركز الثقافي العام 1984، وهي من تأليف عبد الرحمن حمادي.
تحكي المسرحية عن فلاح يكتشف أن السدّ القائم على أطراف المدينة يكاد ينهار بسبب تكاثر الفئران التي كانت تنخر تحته، وقد حاول إبلاغ والي المدينة إلا أنه أصطدم بالحراس الذين منعوه. وهنا تبدأ حبكة المسرحية حين طرح الفلاح سؤاله الإشكالي على الحراس من باب التسلية عمن جاء بالأول الدجاجة أم البيضة؟ وتنقسم الدولة وينقسم المجتمع بين مَن هم مع الدجاجة أو البيضة، وفي الوقت الذي كانت فيه الفئران تتناسل وتنخر تحت السدّ الذي ينهار وتأتي المياه على المدينة وتغمرها.
أردت الاستشهاد بهذه المسرحية لدلالاتها السياسية، وكأنها كتبت للمدينة في هذه المرحلة الراهنة. ودلالات النص تشير إلى وجود عدو خارجي يتربص بالمدينة ويتسلل إلى النسيج الاجتماعي لهذا المتحد الغني بالثقافات، وهو لن يفرق بين فئة وفئة وجماعة وجماعة. ولكن في أزمات كهذه عادة ما يُطرح سؤال جوهري: هل المدينة متّحدٌ موحّدٌ أم أنها «جماعات» تحيا كل منها في حيّها وزاروبها رغم أن الأرض واحدة؟
كيف نحدد ما يترتب على مجموع السوريين عندما توحدهم علاقة المواطَنة الواحدة؟ وما هو نظام علاقاتهم ببعضهم عندئذ؟
تأتي هذه الأسئلة في وقت تعيش فيه القامشلي وضعاً مأزوماً بسبب محاولة الـ «pyd» الاتحاد الديمقراطي فرض اللغة الكردية على المدارس، الأمر الذي لاقى رفضاً كاملاً من بقية أهالي المدينة.
ولكن قبل معالجة الحالة الطارئة في المدينة يجب تأكيد أن حوار المعرفة في ميدان العلاقات المجتمعية لم ينقطع أبداً في القامشلي ويجب ألا ينقطع، رغم أن الجماعة المهيمنة توقعت أنها ستشكل ذاتها وفق إرادتها في عالم الفوضى القائمة… ولكنها بدت تعيش فراغها رغم أنها تشكلت ضمن شبكة العلاقات والظروف الراهنة والتي تحددت حين خفت وتيرة العلاقات الاجتماعية.
إن هروب الجماعة المهيمنة إلى أمام، في هذه اللحظة المصيرية للدولة السورية، يعني الخروج على شروط المكان وظروفه الداعمة للمشكلة. هذا ما نفهمه على الأقل من السياق العام من فكرة الهروب. وهنا يصبح تعبير «الهروب الى الأمام» يعني تخطي الأنساق الضاغطة التي لا حوار معها سوى الانكفاء عنها والخروج كلياً من دائرة الجماعة الضيقة إلى رحاب المتحد الأكبر.
منذ بدء الأزمة السورية بدأنا نلاحظ ازدياد الفجوة بين مكوّنات النسيج في المدينة وغياب المشتركات بينها، رغم أن «سدّ» الإرهاب يحاصر الجميع، والخطر يهدد ليس وجود المدينة ككل ومستقبل المحافظة الحسكة بل مصير الدولة السورية كافة.
إن إعادة ترميم النسيج الاجتماعي الذي مزّقته القوى السياسية المهيمنة بتخندقها الطائفي والاثني وبتشجيع الاحتلال الأميركي تتطلب المزيد من الإجراءات التي تمنح الناس الطمأنينة بزوال ملامح التفرقة والتمايز بين الجماعات. وإن المعيار الذي يجب أن يسود في التعامل وعلى جميع الأصعدة هو الهوية الوطنية والانتماء لسورية، بغض النظر عن الهوية والانتماء الثانوي لجماعة إثنية مثلاً.
ولكي نمنع ثقافة البغضاء والكراهية لا بد من السيطرة على تلك المنابر وإخضاعها لسلطة الدولة وعدم فسح المجال لكل مُدّعِ لاعتلاء تلك المنابر وإشاعة الأكاذيب وتشويه التاريخ وزرع الفتنة.
لا شك في أن حين اشتداد الأزمات وتعقُّد الملفات تكون الجماعات أحوج ما تكون لمن يمتلك البصيرة ليقدم الحلول أو يشارك فيها ويُخرج البلاد من تلك الأزمات بأقل التضحيات وبأكثر المنافع. وفي المشهد «القامشلاوي» المتأزم والمنفعل والمزدحم تحضر الملفات والاستحقاقات بانتظار مشاريع القوانين والقرارات والرؤى والأفكار السديدة للإحاطة بالقضايا والمشكلات التي تعترض الحلول وإخراجها مخرجاً صحيحاً.
القوى السياسية التي كوّنت العملية السياسية وأدارتها في المدينة هي كذلك في محنة بعد استشعارها الخطر بالذي يحوم في محيطها، وبدلاً من التوجه إلى الحل بات بعضها ساعياً إلى استغلال الوضع للقفز على الواقع والاستحواذ، وبات هذا البعض مصراً على عدم التضحية، وبات الآخر راغباً في جني الثمار وسط الركام ليزيد قوته ويقاوم الاتجاهات السائدة.
إن الـ «pyd» الذي يتفرع عن خط زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، يضم أجنحة كثيرة، غير أن الجناح الإعلامي والسياسي في هذه الوحدات يمكن القول عنه بأنه مشبوه في سلوكه وطرحه العنصري الذي يسعى إلى فرض اللغة الكردية في المدارس كافة، ما يشير إلى أن الـ «pyd» أولاً يفتقر لقيادة واعية في القامشلي ومنها، ولذلك يقود جناح من أجنحته عناصر كرد من تركيا وشمال العراق.
وجود الـ «pyd» المتعارَف عليه من قبل الحكومة السورية، جاء من خلال عقد منظم بينهم وبين الدولة لحماية النفط ومشتقاته مقابل بدل مادي متفق عليه، وبعد تراجع نفوذ الدولة قرروا أن يقيموا حكماً ذاتياً إثر استفتاء منفرد لم يشاركهم فيه أحد من غير الأكراد إلا حميدي الدهام من قبائل الشمر العربية الذي تمّ تعيينه رئيساً لمنطقة الحكم الذاتي ومقرّه عامودا ومعهم حوالي مئة مواطن سوري من السريان من خارج القامشلي.
دفع هذا الواقع دفعاً بعض اتجاهات الـ «pyd» إلى بدء التحرش بالناس لفرض ضرائب وخوّات وتجنيد إجباري، حيث تم اعتقال شباب من الشارع أو اقتحام البيوت لتأدية الخدمة، كما تم اعتقال البعض من مثقفي الكرد وملاحقة آخرين، إلا أن ردات فعل الفئات الشعبية كانت مع محاولة إلزام المدارس بتدريس اللغة الكردية التي لم يقبل بها أحد حتى الأكراد، لأن اللغة الكردية غير قادرة على أن تكون لغة علم وتعليم ولا تعترف بها دولة من الدول، ثم لا يوجد كادر أو آلية لتدريسها وسحبت الدولة مدرّسيها من مدارس الأكراد وبقي الطلاب في الشوارع ثم أرادوا فرضها على مدارس السريان ما اضطر السريان لطرد الطلاب الأكراد من مدارسهم، وجاء قرار مصادرة بيوت وأراضي الغائبين ليفاقم المشكلة بين الـ «pyd» والجماعات والفئات الأخرى.
وتحضرني هنا إشارة إلى ما جاء به الصديق عامر الشيخ هلوش على صفحته الالكترونية، عن شبه القارة الهندية التي يبلغ عدد سكانها ملياراً وربع المليار. واللغة الهندية من اللسانيات العريقة وذات صور بيانية ولغوية وصفية جميلة، وبالرغم من ذلك فإن اللغة الرسمية في الهند هي الإنكليزية، وحذت حذوها باكستان في اعتماد اللغة الإنكليزية كلغة للتعليم وللأعمال الإدارية والحكومية، ومثلها السودان، الدولة العربية العريقة، باعتمادها اللغة الإنكليزية كلغة رئيسة للتعليم والأعمال الإدارية والرسمية، وقد اعتبر هلوش ذلك، «رسائل حضارية وعقلانية للذين يحتكرون لغتهم وفرضها بالقوة على الآخرين بحجة أنها اللغة الأم».
وهكذا أصبح متّحد القامشلي في مجمله في محنة لا يقوى طرف على حلها من دون تعاون باقي الأطراف، فهل تصحو جميع الأطراف من غفوتها لتقدم بعض الحلول وتسهم في تنفيذها أم تبقى على حالها فينهار «السدّ» الذي نخرته الفئران وتُغرق المدينة؟