فصل من رواية «ماس ونساء»

لينا هويان الحسن

خولين كراسنوف، كان معجباً بظرافة حبيبته حين تتفادى ذلك النوع من الصدامات، وينعتها قائلاً: «فنانة التكتّم اللطيف». ويشرح لها قائلاً: «كل شعب يظنّ أن النبل والمروءة من ابتكاره والسوقية منبتها جينات الشعوب الأخرى… ندين لأوطاننا بالجيد والسيئ».

كان خولين من الجالية التي يُطلق عليها في البرازيل «روستوس» الكلمة التي ينعت فيها كل من جاء من روسيا وبولونيا وألبانيا وتلك النواحي . فيما ألماظ من الذين يُنعتون بـ»توركوس» أي كل من جاء من تركيا والشرق الأوسط بالعموم.

فجأة توفى يوسف زيلخا وهو نائم في فراشه، ورومية خانم لم تذرف دمعة واحدة، فقط عانقته ووضعت شفتيها على عنقه، وماتت بذات الهدوء الذي مات به يوسف.

بعد عدة أشهر، ظهرت الآنسة جوليا، ابنة آسيا خانم، وصلت سان باولو، متأبطة ذراع جميل بك.

ألماظ لم تكن قد نسيت وجهه في آخر مرة رأته فيها قبل مغادرة باريس. كان يشرب النبيذ، ويشتم العثمانيين عقب عودته من دمشق وبيروت، وفي جيبه توقيعات مهمة لأعيان دمشقيين. يؤكدون فيها تأييدهم لمؤتمر جريء عقده شبان المعارضة السورية الذين كانت تتراوح أعمارهم ما بين أقل من العشرين بقليل، ومنتصف العشرينات. وكان لقلّة خبرتهم بالمساومات العثمانية، أثر محبط على نتائج مؤتمرهم الذي عقدوه بإصرار، متحدّين إرادة العثمانيين.

جميل بك، صَدَرَ بحقه حكم غيابي بالنفي. ووجد في ذلك فرصة مثالية للتهرب من خطيبته الآنسة وثيرة. وتحقيق حلمه بالاقتران بالآنسة جوليا التي خلّف فرارها من دمشق دوياً هائلاً في الأوساط الاجتماعية المسيحية والمسلمة.

كان جميل بك يقوم بزيارة لشرح الأوضاع السياسية في سوريا، للجالية العربية في البرازيل. قبلها كان قد زار الأرجنتين والتشيلي.

إذن، روميّة خانم كانت عمته، وجميل بك لم يكن إلا ذلك الصبي الشقي الذي جذب ثوبها ودفعها معه صوب مياه النهر! ألماظ أدهشتها المفاجأة.

قَصَدَ سان باولو، ليتمم إجراءات حصوله على ميراث عمته المتوفاة حديثاً «روميّة خانم» من دون أن تخلف ورثة وراءها.

كان سعيداً بسماع ألماظ وهي تحكي له عن عمته التي كانت قد هربت مع حبيبها اليهودي قبل ثلاثين سنة من دمشق، ولم يعرف أحد عنهما شيئا إلى أن مات كلاهما. خصت ابن شقيقها جميل بوصيتها، ربما لأنه كان السبب في سقوطها في ماء بردى حتى تلتقي منقذها يوسف، وتتغير حياتها. هكذا خمنت يومها ألماظ التي كانت قد بدأت تتفهم الحب أكثر.

سُرَّ جميل بك كثيراً، لأن عمته كانت محبوبة ومعروفة بأفضالها الخيرية، في أوساط الجالية السورية. في زياراتهما المتتالية اكتشفت ألماظ أشياء كثيرة أهمها أن لقاءها بجميل بك لم يكن مصادفة، وذلك حين همس لها رسالة شفهية من زوجها الكونت. ودُهشت وهو يعرض عليها فتح صفحة جديدة في حياتهما. ويؤكد لها أنه نادم على ما كان منه من إهمال لأنوثتها، ويمنحها وقتاً لا يتجاوز ثلاثة أشهر قبل أن يبدأ بإجراءات الطلاق. وسيضطر فيه آسفا إلى إثبات خيانتها له كل تلك السنوات، والإثباتات متوافرة لديه. رغم وفرة الأخبار التفصيلية الكثيرة التي حكاها لها عن السياسة في بلدها، لكن ما عرفته عن نادجا، وزفينار، كان أكثر إثارة بالنسبة إليها: الاثنتان كانتا تعملان لحساب الأتراك والفرنسيين في الوقت نفسه، وتبيعان أسرار الجمعية العربية الفتاة بأسعار متفاوتة. ألماظ فهمت طبيعة العلاقة التي ربطتها بالبيكباشي محمود. في وقت متأخر ولم تعد معنية كثيراً بهما.

جميل بك وجدَ نفسه مضطراً إلى حضور مراسم لم يكن مقتنعاً بها إطلاقاً. فليس سهلاً على أي مسلم، حتى لو كان متغربناً، أن يوافق على حمل آنية من الخزف الصيني فيها رماد عمته مخلوطاً برماد زوجها، لينثر الرماد في نهر بردى، تحديداً ذلك الفرع الذي يعبر مرج صدر الباز. كان محتاراً بشأن معتقدات الزوجين الراحلين.

منزلهما كان زاخراً بالرموز الدينية لكلا الدينين. كتاب التوراة ظلّ على حاله موجوداً فوق سرير الزوج الراحل. والقرآن مقابله على سرير عمته. فلماذا الحرق؟! لماذا أوصيا كلاهما بحرق جسديهما؟ ألم يعثرا على طريقة للتلاقي غير الرماد؟!

جالت ألماظ برفقة جميل بك وجوليا، في أنحاء المنزل الذي قرر عميد الجالية السورية الدون أنطون، شراءه وتحويله إلى نادي للجالية. بدا كما لو أن كل شيء مصنوع في دمشق. مرّ جميل بك من أمام المرايا المؤطرة بخشب محفور ومذّهب وجاهز للإيعاز لنثار الذكريات بالتسرب بهدوء مستعجل وطيّب. كانت الغرف كلها تحوي «كتبيّة» لوضع الكتب ومختلف الحاجات. و»خرستانات» تلك الخزائن الصغيرة المحددة بخشب ملون بدهان هندي، مع رفوف مزينة بالخزف الصيني. و»يوك» وهذا خزانة أكبر من «الخرستان» توضع له ستارة لتخبئ خلفها الفرش واللحف والوسائد.

غرفة نومها، أثاثها مصنوع من خشب الجوز المطعم بالصدف. لخزانة بثمان درفات مغطاة بالمرايا. . وكوّة على شكل قوس قوطي، ضمت النراجيل وفناجين القهوة وقوارير ماء الورد. ومجمرة العطور، تنتصب كأنها في مهمة أخيرة تتشبث بإنجازها.

حضرت ألماظ مع خولين حفلة وداعية أقيمت على شرفهما. وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأت فيها كلاً من جميل بك وجوليا التي أعتنقت الإسلام حديثاً من دون أن تغير شيئا في عادات ملبسها.

ألماظ، تجاهلت أن جميل بك كان ينتظر جوابها بشأن الكونت. في كل الأحوال، مهما كان جوابها للكونت، فإن جميل بك لم يكن ليوصله. لأن الباخرة «دوقة دي أرانزا» غرقت في عرض الأطلسي. وفي عمق المياه الزرقاء، استقر جسدا الزوجين المتحابين والآنية الخزفية الصينية التي تحتضن رماد روميّة ويوسف زيلخا، في قعر المحيط إلى الأبد.

في كل مرة كانت ألماظ برفقة خولين تحب أن تسمع من عميد الجالية السورية في سان باولو، الدون أنطون عجمي، ذكرياته عن دمشق. كان قد احتفل بعيد ميلاده الثمانين. وفي كل سهرة يحضرها يتحلق حوله الكبار والصغار، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، ليحكي لهم عن مدينة تشبه وطن في الحلم أو الحكايات أو الذكريات. الدون أنطون، عملَ في بداية حياته سائس خيل في اسطبلات الأمير عبد القادر الجزائري. ومن منزل الأمير الصيفي الكائن في حي الصالحية على سفح قاسيون، حمل ما يشبه مذكرات تفصيلية عن السهرات الصيفية التي كان يجري تنظيمها على السطوح ليستقبل الوجهاء والأعيان الأوروبيين.

النبلاء الفرنسيون، واللوردات البريطانيون، والسائحون الأميركيون، والمبشرون البروتستانتيون، والكاثوليكيون، والحجاج المسلمون من آسيا وأفريقيا. كان الخواجة يحكي بشغف، عن بساتين المشمش والبرتقال، وأصوات نواعير الماء في البساتين المحيطة بالمدينة. روى بدقة معلومات عن أشهر الشخصيات الأجنبية التي عاشت في دمشق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

مثل السنيور كاستيلي، القنصل الإيطالي وزوجته، والليدي جين دغبي التي هجرت موطنها بريطانية لتعيش مع شيخ عشيرة بدوي وقعت في غرامه. والليدي إيزابيل بورتون زوجة القنصل البريطاني. استعانت الليدي إيزابيل لمرات كثيرة بخبرة أنطون في تنظيم حديقتها «المتوحشة» فقد أحضرت معها خمسة كلاب من فصيلة «سنت برنارد»، ثم أضافت عليها جرواً حمله لها ذات يوم أنطون. عَثَرَ عليه على ضفة بردى قرب باب الفراديس حيث واحد من بيوت الأمير واستطبلاته. وهرّة أعجمية بيضاء حصل عليها من السوق من أحد التجار الأفغانيين. وثلاثة روؤس من الماعز لأجل الحليب. وتشكيلة من الطيور والحمام، وحمل صغير، جلبه لها من الغوطة. وشبل نمر اشترته من رجل بدوي قابلته الليدي في أحد الخانات.

أنطون ساعدها في زرع بذور إنكليزية جلبتها معها. وسرعان ما بدأت المشاكل. فالحمائم والدجاج أكلت البذور، والهرة افترست الحمام، والكلاب بدأت في مطاردة الهرة. أما شبل النمر فقد قضى على الحمل الصغير وأرهق الماعز بمناوراته الهجومية المتكررة وأثار ذعر الخيول.

لعدة أشهر ظلّ أنطون يحضر بشكل شبه يومي إلى منزل الليدي الذي أصبح يشبه غابة صغيرة. أفرادها يتربّصون ببعضهم البعض. ذات مرة وصل أنطون فيما الشبل المشاكس يحاصر فتاة شابة كانت قد حلت ضيفة على منزل الليدي قادمة من إنكلترة حديثاً.

الشبل المعتاد على مماحكاته اليومية لأنطون، انسحب فوراً تاركاً الفتاة تعاني آثار الخوف. بعد أسبوعين فقط، تزوجت من أنطون، وغادرت معه إلى موطنها لتبقى هناك مدة عامين. بعدها هاجرا معاً إلى سان باولو حيث عمل أنطون بتجارة الأقمشة والأجواخ الإنكليزية وبعد ثلاثين عاماً كان واحداً من أثرياء سان باولو.

روى أنطون لبرلنته كيف أنه افتقد كثيراً للحمّامّات الشامية.

وفي لندن كان يصادف الليدي إيزابيل التي أرغمت على العودة الى إنكلترة بعد استدعاء زوجها من قبل الحكومة الإنكليزية.

كانت الليدي تقصد الحمّامّات التركية في شارع جيرمن في لندن. ومراراً، شكَت لأنطون رداءة تلك الحمّامّات، متذكرة حمّامّات دمشق وعطورها بأسى بالغ. كانت تحنّ بشدة إلى دمشق وتؤكد أنها ودعت السعادة بتوديعها لدمشق. وتلك التفاصيل كلها اطلع عليها الشعب الإنكليزي عندما كتبت إيزابيل بورتون مذكراتها بعنوان «مرآة دمشق».

كل جالية كانت تحرس مذكراتها المتخثرة بفعل الوقت. قد يختزل تلك المذكرات زيٌّ مصنوع من قماشة محايدة نُحمّلها كل حميمية تقليد محمول من أصقاع بعيدة إلى أرض جديدة قريبة، تحتمل كل ممارسات البشر الممكنة، في سبيل تثبيت وتنظيم روزنامات مشغولة من فوضى وتشويش على وشك أن تمحوه الأيام.

مع كل تلك القصص الموزعة بين الفودكا الروسية والنبيذ الفرنسي والعَرَق السوري تأكدت ألماظ أن التاريخ لا يعيد نفسه فحسب إنما في أحيان كثيرة يطابق نفسه.

كانت آخر مناسبة حضرتها ألماظ مع خولين كراسنوف، في النادي الرياضي السوري. لمناسبة فوزه على نادي بالميراس، وبعد تعادله مع مكنزي بورتوغيزا. ولأن غالب الشبان الذين لعبوا وأحرزوا ذلك النصر كانوا من يهود حلب، قدمت أشهى المأكولات الحلبية وضمنها تلك الأكلة الشعبية الطريفة التي يسميها أهل حلب «يهودي مسافر» وهي عبارة عن برغل بالكوسا والباذنجان والكزبرة والثوم، وضحك الجميع على أثر ما قاله الدون أنطون عن سبب تسمية تلك الأكلة شارحاً أن يهود دمشق كانوا يأكلونها باستمرار ويسمونها «مسلم هربان» ولما صار المسلمون يعملونها ويأكلونها سموها « يهودي مسافر».

تلك المناسبة افتقدت بمرارة لحضور رومية خانم وزوجها يوسف زيلخا. كان الجميع يتحدثون عن تزامن وفاتهما المدهش. خولين وحده قال لها: الحب، هذا الحب الذي يمر كل ألف عام.

لكن، الحب لم يكن سبباً كافياً لأن تموت ألماظ عقب موت خولين.

تصدر قريباً لدى دار الآداب في بيروت.

linahawyanal yahoo.com

روائية سورية تعمل في الصحافة العربية وتقيم في بيروت. صدرت لها عدة روايات، منها «بنات نعش»، «سلطانات الرمل»، «نازك خانم».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى