الحضارات الإنسانية تقول اليوم: الأيدي العربية تطعن ذاتها بأسنّة تلمودية

بسام عمران

نتمترس خلف خيوط الأمل وأغنيات الوجد لنزيح بعض العتمة عن نفوسنا عندها نتوهّم أننا نقتنص من الأيام لحظات لذة المعرفة التي نظنّها ستقودنا إلى فضاءات مليئة بصخب الحياة وطقوس العذوبة والبراءة الإنسانية لنجدّد محاولات الوداد التي لا تزال معلقة على حيطان الكلام وشبابيك الرؤى الحالمة بعلاج شاف لحاضرنا…

في خضمّ هذا التأمّل تبرز تساؤلات كثيرة تعصف بذاكرتنا الاجتماعية، ومنها، هل تهنا بين مفردات سطور صفحات التاريخ المقدّم إلينا وفق رؤية لا تمتّ إلى قيمنا الإنسانية بشيء يذكر؟ وهل أصبحنا نجهل موروثنا الثقافي والحضاري ونحن نخوض عباب بحر من الأكاذيب والافتراءات التي شوّهت قيمنا حتى أصبحنا ليس أكثر من أوراق تبعثرها الرياح ذات اليمين وذات الشمال لندخل منتصف العقد الثاني من هذا القرن من أوسع أبواب متاهاته وكأننا نعيش في الوقت الضائع أو المستقطع…؟ وهل غادرت أدمغتنا كينونة العروبة لنسير الهوينا الهوينا لالتقاط بعض ما تبقى منها والمنتظرة إدخالها غرف الإنعاش لتجدّد نبضها…؟ وهل باتت أمة العرب تتلعثم اليوم حتى بمفردات عروبتها لتبدو وكأنها فاقدة القوة والأصالة والعنفوان؟ فها هي فلسطين تستصرخ وتستغيث وجعاً ممضاً وقاتلاً وأقصاها ومهدها يئنان ألماً من تيه العرب، مسلمين ومسيحيين، جراء زوابع هوجاء محمّلة بمفرزات غبار مجرثم… زوابع تستهدف طعن ذاكرة وجودنا لتغيبنا عن حقائق الواقع وتنسينا حتى زرقة السماء… وهل… وهل؟ إنها تساؤلات لم تُعرف لها أجوبة إلا على أوراق بعثرناها أو جرت بعثرتها رغماً عنا حتى لا نعرف من نحن ومن نكون وأيّ أمل رسّخناه بأرقام وحروف أقلّ ما قيل عنها إنها بداية ابتكار تدوين أفكار الإنسان…

فاليوم تجتاحنا بل تغزونا تيارات متعددة المصادر وتزدحم أحداث متلاطمة الأمواج تمنّ علينا ببعض فتاتها كي تساعدنا على النسيان والاغتراب عن جماليات فكرنا الإنساني… ومصدّرو هذه التيارات يتجاهلون حقيقة أنّ للزمن بصمة لها خصوصية مؤثرة وآسرة في النفوس، رغم تسارع أحداث مؤثراته، ونتيجة لهذه التيارات بات زمننا العربي يسير بنا بخطا متسارعة باتجاه المجهول سارقاً قدراتنا وحتى أقدارنا من بين أصابعنا المثخنة الجراح… فإلى متى سنبقى في هذا التيه…

لقد آن الآوان كي نزيح عن إرثنا الحضاري غيوم الضلالة والبهتان التي تقصينا عن ركب الحضارات بإصرار لم يعرفه حتى الآن شعب غير العرب… هذا التمادي يجب أن يوضع له حدّ قبل فوات الأوان لتدفع عن إنساننا همجية الجشع والعلاقات المتأرجحة بين المصالح وصدى الثروات… لقد عرف التاريخ المعولب والمصدّر والمسوّق إلينا عصوراً أطلق عليها زوراً وبهتاناً حجرية… حديدية… نحاسية… برونزية إلخ… وكأنّ هذه الأشياء ظهرت إلى الوجود من تلقاء نفسها دون تدخل واع من إنسان مبدع استطاع بفكره الفذ أن يصنع خليطة البرونز مثلاً… هذا النكران وقلة الوفاء انتقل إلينا في غفلة منا حتى اعتنقه الكثير من مؤرخينا وباحثينا، علماً أنّ الموضوع لا يحتاج إلى كثير عناء لنعرف أنّ إنساننا العربي هو من غيّب قسراً عن مسرح أحداث التاريخ، بدليل تقسيم هذه العصور حسب أدواتها التي ابتكرها ابن هذه الأرض والانتقال بها من صفتها المعدنية إلى قوميتها وبشكل مفاجئ حيث يسمّى عصر الحضارة الإغريقية واليونانية… و… و… هذا الواقع المسحور حتى أنين الوجع وصراخ الألم لا يصدّقه عقل يعي ما يُقدم عليه… فإلى متى نبقى مغلقي العيون عن أزمنة لا نزال نزهو بها وهي أمامنا مهجورة تنتظر مصادفة تحمل عطرها إلينا لتعيد إلى نفوسنا القدرة على التوهّج قبل انطفاء تلك الومضات الباقية في أرض مهد الحضارات الإنسانية، فالحضارة السومرية باعتراف الجميع هي أولى الحضارات البشرية، والتي لا تزال اكتشافات عطاءاتها تتوالى حتى الآن… والمدهش إلى درجة الغرابة أننا لا نزال نعتمد في قراءة المكتشفات واللقى الآثرية حتى الآن على أناس لا نقول جميعهم يكنون لنا العداء وانْ أحسنّا الظن بهم نقول إنّ بعضهم يشاركون في تغييب إبداعات الإنسان العربي الذي أنار دروباً لا تزال تضيء وتلهم الإنسانية لتقدّم كلّ جديد في عصر متسارعة أحداثه ونتاجاته؟ أم أنّ السبق التكنولوجي والتقدّم الصناعي أعمى فكرنا وأغلق بصائرنا عن حقائق ناطقة لا يمكن إخراسها عند ذوي الألباب والضمائر الحية التي تنادي من خلف البحار قائلة: إنّ تاريخكم منارة يُقتدى بها وعليكم وحدكم يقع عبء تصحيحه مما لحق به من زيف وتزوير وطمس لحقائق إبداعات أبناء هذه الأرض، لأنّ حركة وحراك التاريخ لم تشر حتى الآن إلى أيّ مجموعة بشرية اشتركت في الأفكار والعواطف والعادات والتقاليد والمصالح واللغة وأغلب أسس منهج الحياة كمجموعة الحضارة العربية… هذه المجموعة رغم كلّ ما عصف بها من أهواء الحكم والمصالح الذاتية على مرّ التاريخ ظلت مثل شجرة وارفة ترسّخ جذورها في الأرض لتفتح أبواب كنوز المعمورة فتفيض على الدنيا بعلوم الحساب والهندسة والفلك والكيمياء والطب والعلوم المادية والإنسانية المختلفة… وتسمو هذه الحضارة – الحضارة العربية – لتقدّم للبشرية عصارة فكرها وحكمتها ومعارفها الإنسانية… لتؤتي ثمارها كلّ حين حتى في هذا الزمن الصعب الذي تكالبت فيه كلّ مصالح القوى الطاغية لاجتثاث هذه الشجرة من جذرها، ثم حرق أغصانها وجعل رمادها يُنبت زرعهم الجديد…

وكما أنّ الشجرة تزداد نمواً وإثماراً بالتلاقح والتطعيم، كذلك هي الحضارية العربية، ازدادت نماء وخصباً وعطاءً حين تفاعلت شعوبها مع عطاءات الأمم الأخرى… وقام هذا التفاعل على تبادل الأفكار والآراء والتجارب ما أنتج تطوراً ملحوظاً على الحراك الفكري والثقافي والاجتماعي الذي شكل في ما شكل حصناً منيعاً أمام محاولات الهدم والاختراق…

ولا تزال أمتنا العربية تتحدّى حتى اليوم كلّ معاول القلع العنصرية والطائفية والاستعمارية والمصالح الذاتية وخاصة معول العولمة الذي يهدف إلى تغييب حضارتنا عن وقائع التاريخ تمهيداً لمحوها من سطور الكتب ومن ذاكرة أبنائها، ليسهل على مسوّقي الفكر الدخيل على حضارتنا وقيمنا زرع أفكار تناسبه في رؤوس مفكرينا ومثقفينا ومن ثم عقول أجيالنا لتتماهى مصالح الاستعمار مع بعضها أولاً ومع القيم الجديدة التي غرسها في العقول وبذلك يتمّ تغييب نهب ثرواتنا عن الأنظار…

إنها تساؤلات وأشجان النهاية… نهاية عصر التوجّع وحكايات الابتسامات الصفراء التي تطفّلت على ماضينا وحاضرنا معاكسة أفعال التاريخ وفاعليته ومتناسية أنّ هذه الأمة كانت ولا تزال منبع بوح المعرفة ومن أرضها شعّ النور ليضيء منارات العلم ويرسي مبادئ القيم الإنسانية والأخلاقية للبشرية جمعاء.

إنّ نبضات الحياة ووميضها يفرض علينا العيش مع بيارق الأمل المتجدّدة من خلال فهم أفضل لما هو آت، فالماضي لن نستطيع إصلاح أخطائه ولا الدخول إلى لحظاته، وكلّ ما نستطيع فعله هو الاستفادة من تجاربه وعطاءاته… ومع هذا الوميض يختزن كلّ منا أحلامه الخاصة… ومع تكتكيات الثواني وتوالي الأيام ننتظر تحقيق بعض أحلامنا والأخرى نؤرشفها في خزائن لا نملك لها مفاتيح، ولعلّ أجيالنا القادمة تستطيع فك رموز هذه المفاتيح لتجدّد بوح نبضها ولتزيح العتمة عن تاريخنا وحاضرنا.

كاتب وصحافي سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى