نحن والعالم… والأحلاف المشبوهة!
محمد ح. الحاج
إلى أين يتجه العالم في الصراع على النفوذ والتوسع والثروات؟
هل الاتجاه إلى توسيع الأحلاف، أو إنشاء أحلاف جديدة هي المقدّمات لحرب كونية؟
هل يلعب الكساد الصناعي في المراحل المقبلة وزيادة البطالة والفقر دوراً في إشعالها؟
ما الغاية الحقيقية من زيادة نشر القواعد العسكرية في العالم، وما هي مخاطرها؟
يلفت انتباه المراقبين والمحللين منذ أكثر من عقدين اتجاه الولايات المتحدة الأميركية نحو توسيع حلف شمال الأطلسي وضمّ دول ودويلات كانت من ضمن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، إضافة إلى دفع بعض الدول الدائرة في الفلك الأميركي إلى إقامة تحالفات لأغراض آنية لكنها لا تخرج عن السياق العام لسياسة الحلف الأطلسي من حيث الوظائف والأهداف؟
الواضح أنّ القوى العسكرية الكبرى ابتعدت منذ زمن عن إشعال الحروب الصغيرة وخوضها منفردة، وقد تابع العالم أكثر من حرب صغيرة شاركت فيها مجموعة كبيرة من الدول تحت اسم تحالف مستظلة في بعض الأحيان قرارات مجلس الأمن الدولي أو متجاوزة لها ومفسّرة مضامينها بما يخدم مصالحها وغاياتها ومن تلك الحروب… حرب الخليج الأولى والثانية، والحرب على أفغانستان وبعدها يوغوسلافيا التي تمّ تقسيمها في ما بعد، الصومال، ليبيا، وفي الوقت الراهن الحرب على سورية ومثيلتها في اليمن.
الغريب في ما يحصل أنّ كلّ هذه الحروب قامت وتقوم تحت شعارات هي في حقيقتها كلمة حق يُراد بها باطل، فلا الإنسانية نالت حقوقها، ولا الديكتاتوريات الفعلية سقطت، ولا الشعوب المظلومة تحرّرت، أما نتائج كلّ تلك الحروب فقد عادت بالويلات والخراب على الشعوب المستهدفة، وجاءت لتحقق مصالح القوى والاحتكارات الكبرى، وتنفذ مخططات تمّ وضعها قبل سنين طويلة في سياق منهاج قد يمتدّ لمائة عام على الأقلّ، وتقف وراءه قوى كانت شبه مجهولة إلى حين، إلى أن تمّ كشفها وإزاحة الستار عنها من الداخل عبر تسريبات لمجموعات من أفراد أو فرد بدافع الوجدان والضمير، وإذا كانت بعض الأهداف والغايات كشفتها وثائق الخارجية الأميركية التي يُسمح بنشرها بعد ربع قرن، فإنّ الكثير من الوثائق لا تعود إلى أبعد من سنوات تمّ نشرها، ويستمرّ عبر صفحات تحمل اسم «ويكيليكس» وهي ليست بروباغندا إعلامية لأنها تحمل بين طياتها مصداقية وجدّية دفعت بدول وشخصيات عالمية إلى متابعتها والمجاهرة بمواقف تدين الممارسات الأميركية أو الاستخبارات الدولية المتحالفة، وهي الخادم الأكبر للاحتكارات المتعددة الجنسية أو التنظيم السري للحكومة العالمية ومن يطلق عليهم المحافظين الجدد، المستنيرين، أو اختصاراً «حكومة الظل العالمية».
قد لا تشكل الدول الصغيرة التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، والتي انضمّت إلى حلف الناتو كبير خطر على الاتحاد الروسي الدولة القوية العملاقة في الشرق لكنها لا شك مبعث قلق لأنها ستكون نقاط تمركز لقوات حلف الناتو في أيّ صدام محتمل، وهذا الأمر لا تغفل عنه الإدارة الروسية، السياسية منها أو العسكرية، ونلاحظ أنها تلجأ إلى ردود هادئة ومناسبة وأحيانا حاسمة القرم مثلاً .
تأخذ الدول في حسبانها عند التخطيط للحرب أن تكون خارج أراضيها، ونعلم أنّ الولايات المتحدة لم تتعرّض لأيّ هجوم بعد «بيرل هاربور» وقبله في حربها الأهلية الداخلية، من هنا يكون الانتشار الأميركي عبر إقامة القواعد ونشر حاملات الطائرات منطلق أية حرب بعيداً عن أراضيها، فالشعب الأميركي أكثر الشعوب تحسّساً للخسائر وأقلها احتمالاً، ولا يمكن إهمال الخسائر البشرية، هذا ما جعل الإدارات الأميركية المتعاقبة تتعرّض في حروبها قبل أكثر من نصف قرن في الجنوب غرب الآسيوي إلى احتجاجات وتظاهرات مطالبة بوقف الحرب والانسحاب رغم الاتجاه الرسمي لاستمرارها استجابة لضغوط الاحتكارات الصناعية العسكرية والنفطية التي جنت أرباحاً طائلة من الحروب.
الحروب المحدودة المقبلة أو ما يحدث منها اليوم بالوكالة ستشكل الخطر الأكبر على الدول التي تتموضع على أراضيها قواعد عسكرية غريبة ومن نافل القول: إنّ استهداف القواعد الأجنبية المنتشرة في عالمنا المشرقي سيعود بالخراب والدمار على هذه الدول وربما مسحها عن خارطة العالم كما في قطر والبحرين والجزر الكويتية وبعض الدول المجاورة لروسيا، لأنّ الأولوية ستكون باستهداف هذه القواعد التي تشكل الخطر الأقرب قبل استهداف القواعد المنتشرة في أوروبا أو الأراضي الأمريكية ذاتها… وهذه استراتيجية معروفة للعالم ولا يجهلها إلا الأعراب والدول المتخلفة في العالم لاعتقادهم أنها مصدر الأمن وهو اعتقاد خاطئ بالمطلق.
التحالف العربي «المأجور» مع السعودية في حربها على اليمن هو في جوهره تخطيط أميركي، ومع أنه لا يتمتع بتغطية أممية إلا أنه يحظى بالدعم الغربي والتغطية تحت شعار «إعادة الشرعية»، أما الهدف الحقيقي فهو السيطرة على باب المندب والمضائق التي توقع خبراء الاستراتيجيا الغربية خروجه عن السيطرة بعد الثورة اليمنية وسقوط عملاء هذا الغرب، وأكثر ما يشغل هذا الغرب وتحالفه هو ضمان حرية الملاحة للكيان الصهيوني واستمرار تواجده في مضائق تيران لمراقبة الحركة الملاحية الإيرانية طبعاً العسكرية منها على وجه الخصوص واعتراض شحنات الأسلحة المتجهة إلى المنطقة، ما لم يفهمه العامة أنّ حقوق الإنسان والديمقراطية والشرعية لا تدخل في حسابات الغرب الفعلية إنما هي نفاق سياسي للتغطية، فكيف يقفون هناك مع الشرعية، ويستهدفون شرعية حقيقية في مكان آخر، يعيشون ديمقراطيتهم ويدعمون الديكتاتوريات! التحالف العربي مع السعودية يتحوّل اليوم كما أعلن ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي إلى تحالف إسلامي مذهبي مأجور بتمويل سعودي لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه حلف الغرب لأسباب موضوعية يفتقر إليها وحتى لا يتهم بأنه يمارس غزواً دينياً «نذبحهم بسكينهم»!
التحالف المشرقي بمواجهة الناتو لم يتبلور تماماً ولم يتحوّل إلى تحالف عسكري كامل حيث لم يتعدّ التنسيق عبر غرف عمليات محدودة المهامّ، إلا أنّ التطورات قد تدفع به سريعاً إلى مستوى متقدّم، وقد تنضمّ إليه دول عديدة من تجمع بريكس، خاصة الصين، وهي تغطي رقعة واسعة من الكرة الأرضية، وهذا ما تخشاه الإدارة الأميركية التي تحاول جاهدة إقناع الروس بأنها جادّة في محاربة الإرهاب، ولكن ليس بعيداً عن «داعش»، وتقدّم مبرّرات لتوسعها في محيط الدولة الروسية وهي مبرّرات لا تلقى القبول الروسي الذي يدرك أبعاد اللعبة الغربية واستهدافها مصير الدولة الروسية وموقعها العالمي عبر تطويقها واستنزاف قدراتها في حروب محلية صغيرة أو محدودة، بينما تحافظ على قواتها وقوات الحلفاء وقدراتهم العسكرية في أوجها، كما تحافظ على اقتصادها وقدراتها المالية عبر السيطرة على رأس المال وثروات الشعوب واستنزافها في هذه الحروب، وقريباً تغرق الدولة السعودية الأكثر ثراء في عالمنا بالديون بعد استنزاف صناديقها ومدخراتها، ويمكن القول إنّ المختصين بهذا الشأن يتوقعون ومنذ سنوات ما ستؤول اليه.
لا يقتصر وجود القواعد العسكرية للدول خارج أراضيها على الناحية العسكرية فقط بل تشكل أمراً واقعاً يسمح لها بالتغيير الديمغرافي بما يخدم مصالحها، فالوجود الفرنسي البريطاني كانتداب على المنطقة المشرقية الهلال الخصيب أورثها التقسيم وإقامة كيانات شبه دول ليس لها منه إلا التسمية، كما سمح باقتطاع أجزاء غالية من أراضيها، فلسطين لإقامة كيان يهودي عنصري استيطاني، ومثله في الشمال اللواء السليب، وإمارات هنا وهناك لم تخرج من دائرة النفوذ وهي مهيأة للاستخدام في كلّ الأحوال والحروب، منها انطلق العدوان على أفغانستان، وبعده العراق، واليوم سورية واليمن، وما الوجود التركي في الشمال العراقي بذريعة تدريب قوات لمحاربة «داعش» إلا التعبير الصحيح والمثال الذي قد يتكرّر لما حصل في الشمال السوري الاسكندرون، هذا الوجود لم يكن ليحصل دون الدعم والتخطيط الغربي، ويعلم الجميع أنّ لتركيا أطماعاً تاريخية في الموصل، وهي تنتهز الفرصة المناسبة لتحقيق هذه الأطماع إنْ أمكنها ذلك… لكن الحكومة العراقية واعية ومدركة ولا بدّ تجد الوسائل الكفيلة للحفاظ على الموصل وكلّ الأرض العراقية وإخراج هذا الوجود العدواني.
الأحلاف القديمة، ما بقي منها وتوسّع أو انفرط، وما يقوم حالياً، وما سيقوم في المستقبل، إنْ هي إلا اصطفاف العالم وقسمته إلى طرفين متناحرين يقودهما الصراع على النفوذ والسيطرة على الثروات والمواد الأولية والأسواق إلى السقوط في حمأة حرب كونية، والبقية الباقية ممّن لا يصطفّ يكون حطب المحرقة، وسيكون لكثير من العوامل المنتظر حصولها، الانفجار السكاني، والبطالة، ونقص الغذاء، وضعف القدرة على الاستهلاك في طرف، وبالتالي حصول الركود الصناعي والكساد في الطرف الآخر، لكلّ هذه دورها الرئيس في اشتعال الحريق ونشوب الحرب، عندها لا تنفع حكمة العقلاء ويضيع صوتهم تحت ضجيج القاذفات وانفجار الصواريخ، وستكون النهاية…
على أمل أن أكون مخطئاً لا مصيباً، وفي كلّ الأحوال يبقى العالم الثالث هو الخاسر الأكبر لأنّ على أرضه تدور كلّ الحروب، هذه سورية والعراق… نصف مدنها ومنشآتها خراب، وهذه السعودية وتحالفها تدمّر البشر والحجر في اليمن… وقد تحصد ما جنته يداها عاجلاً أم آجلا.