الشيزوفرينيا السياسية في نتائج مؤتمر الرياض
سومر صالح
محاولة التفاف سياسي على نتائج الميدان العسكري السوري عنوان صريح لمباحثات ونتائج المعارضات السورية في عاصمة الوهّابية السعودية، بل هو انقلاب سياسيّ على بياني فيينا 1 و2 ومحاولة للعودة إلى أسس جنيف1 للحلّ، الأمر الذي يعني ضمناً اعترافاً سعودياً بسقوط المراهنة على الحلّ العسكري لإسقاط الدولة السورية، وفي الوقت ذاته يمثل هذا المؤتمر محاولة سعودية لإقصاء وتهميش دور تركيا في مجريات الحدث السوري. فعدم دعوة المكون الكردي بشقيه السياسي والعسكري، والإشارة إلى تبني اللامركزية في الحكم المستقبلي في سورية، في إشارة إلى قبول مبدأ الإدارات الذاتية الكردية، يُرغمان القيادة التركية على تبنّي خيارات المملكة السعودية في الحلّ والتصعيد حسب الأجندة السعودية الخالصة، تحت وطأة تطور الأحداث بين أنقرة وموسكو، وخشية أنقرة من تصعيد روسي محتمل. فتحت سقف بيان فيينا1 بتاريخ 30/10/2015 و إعلان فيينا 2 بتاريخ 14/11/2015 وبتكليف من المجموعة الدولية ISSG عقد في الرياض مؤتمر للمعارضات السورية بهدف الخروج بوفد تفاوضي موحَّد في المفاوضات المُزمع عقدها مبدئياً جنيف3 مع مطلع العام 2016، بين الحكومة السورية وهذا الوفد المعارض، حيث أتاح إعلان فيينا 2 تحديد المواقف التفاوضية وذلك لتسهيل بدء العملية السياسية بشكل مسبق، وهذا ما جرى شكلياً في مؤتمر الرياض، وعلى مدى يومين من المفاوضات، إن صحّ التعبير، توافق المؤتمرون على مسودة بيان ختامي تحت اسم «البيان الختامي لاجتماع قوى الثورة والمعارضة السورية»، مع العلم وكما أشارت مصادر للمعارضة ذاتها، بأنّ مسودة البيان أُعدَّت سلفاً، وبغضِّ النظر عن هذه النقطة التي لا نملك إمكانية نفيها أو تثبيتها، أتى البيان مضطرباً في شكله ومضمونه، فركاكة الصياغة وتلعثم الأفكار والأخطاء النحوية والإملائية وتداخل الجمل في بعض المطارح، يوحي بحجم المساومات التي حدثت والتي عكست أجندات الحاضرين وداعميهم الإقليميين. واللافت قبل الدخول في مناقشة تفاصيل البيان أنّ خلافاً عقائدياً سلفياً إخوانياً قد ظهر إلى العلن لأول مرة منذ اندلاع الأحداث في العام 2011، تجلى بانسحاب حركة «أحرار الشام» الإرهابية والتي أعلنت انتماءها السلفي علانية، ورفضت منطق الدولة العلمانية وأكدت صراحة الهوية السلفية للدولة. أما «الإخوان المسلمون»، وبخباثة منطق الإسلام السياسي لديهم، فقد التفوا على تلك النقطة بقبولهم مبدأ الدولة المدنية وليس العلمانية، على غرار النموذج التركي، ويجب التنبه جيداً إلى تلك النقطة في أي مفاوضات مقبلة تخوضها القوى الوطنية السورية.
وبالعودة إلى نصّ البيان وقراءته نورد بعض الملاحظات التي نعتبرها مهمة:
أولاً: يتضح من نصّ البيان أنّ المواقف التفاوضية المعلنة تمثل خروجاً عن المبادئ التوجيهية الصادرة عن مؤتمر فيينا 1 في ثلاث نقاط على الأقل وهي الهوية العلمانية للدولة السورية حيث تمّ استبدالها بمصلح غامض وهو الدولة المدنية، والنقطة الثانية وهي وقف إطلاق النار، فمؤتمر الرياض حدّد مُسبقاً التزام ما يسمى المعارضة بوقف إطلاق النار حال تأسيس مؤسسات الحكم الانتقالي ، من دون تحديد معنى تلك المؤسسات وماهيتها، فالأصل في بيان فيينا 1و2 هو بقاء مؤسسات الدولة قائمة وترتيبات وقف إطلاق النار هي بالتوازي مع انطلاق العملية السياسية ، وليست مرتبطة بتأسيس كيانات أو مؤسسات انتقالية. ففي الأمر بدعة ومماطلة، ولعلّ التفسير الدقيق لهذا المطلب هو عجز القوى المجتمعة على فرض وقف لإطلاق النار على الأرض السورية فتركت الباب مفتوحاً أمام تسويات أكبر تسمح بوقف إطلاق النار حال إنجاز التسويات الدولية الكبرى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تجنّب المجتمعون في الرياض استفزاز الميليشيات المقاتلة على الأرض خشية إعلان تلك الميليشيات رفضها نتائج المؤتمر وبالتالي سحب القيمة التمثيلية للمجتمعين في الرياض وسقوط قيمتهم التفاوضية التي يدّعونها. أما النقطة الثالثة فهي أنّ المجتمعين لم يتبنوا في أي ركن من أركان البيان التزامهم بقتال «داعش» والمنظمات الإرهابية بل عبروا عن رفضهم للإرهاب فقط، وهذا أيضاً خروج عن بياني فيينا1 وإعلان فيينا 2 اللذين طالبا بضرورة هزيمة «داعش» والمنظمات الإرهابية، حتى أنّ البيان خلا تماماً من الإشارة إلى «داعش» و«النصرة» باعتبارهما تنظيمين إرهابيين وهو خروج فاضح عن القرارات الدولية 2170-2178-2199 وهنا يتضح حجم التلاحم العضوي بين المكونات العسكرية الحاضرة في ذلك الاجتماع وهذين الفصيلين الإرهابيين.
ثانياً: ورد في ديباجة الوثيقة الختامية عبارة مهمّة شارك في الاجتماع رجال ونساء يمثلون الفصائل المسلحة ، والأمر هنا يمثل استباقاً سعودياً لنتائج المفاوضات الدولية لتصنيف الجماعات المقاتلة في سورية بين إرهابية وما سيعتبرونها معتدلة وهذا تدخُّل سافر في مهمّة الأردن وإحراج لها وقطع للطريق بينها وبين موسكو بعد أن بدا أنّ تقارباً مهماً يلوح في الأفق، حيث أوكلت إلى الأردن مهمّة التصنيف بالتشاور مع المجموعة الدولية وبالتالي هو خروج صريح عن إعلان فيينا 2 . فقد ذكر نصّ إعلان فيينا 2 أنّ المملكة الأردنية الهاشمية وافقت على المساعدة في تطوير فهم مشترك بين ممثلي أجهزة المخابرات والجيش لتحديد «الإرهابيين» بحيث يتم الانتهاء من هذه المهمّة في بداية العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة ، وبذلك تحاول السعودية جمع الورقتين السياسية والعسكرية في يد واحدة لتحقيق أجندات المملكة في مواجهة محور طهران ـ موسكو.
ثالثاً: أظهر البيان حالة التباس تعكس عدم النضوج السياسي لجميع المجتمعين لعدم إدراكهم قواعد التفاوض الدولي وأصوله ومستجدات التطور الجيوبوليتيكي الدولي الخطير والذي أنتج أطر فيينا للحلّ السوري، حيث طالب البيان برحيل الرئيس بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية، وأبدى المجتمعون استعدادهم للدخول في مفاوضات مع ممثلين عن النظام ، وهذا الأمر رغم تناقضه وعدم جدواه واستفزازه غالبية الشعب السوري، يعدّ نسفاً مسبقاً لنتائج اجتماع جنيف 3 لأنه خروج صريح عن الإطار الحاكم لعقد مؤتمر جنيف 3 أو ما شابهه، الذي اكتفى بتحديد الأطر الزمنية للمرحلة الانتقالية مفسحاً المجال لمزيد من المشاورات الدولية حول معالم تلك المرحلة والتي على ما يبدو تحدِّدها وقائع ميدانية على مجمل ساحات الصراع الدولي.
رابعاً: أظهرت المعارضة المجتمعة ضعف ومحدودية رؤيتها السياسية وافتقارها إلى مقومات العمل الوطني في زمن الأزمات، فقد طلبت المعارضات في الرياض من الدولة كلّ شيء تستطيع طلبه وفي مقابل ذلك لم تقدم تعهداً بفعل أي شيء لإيقاف الأزمة سواء محاربة الإرهاب أو إطلاق المخطوفين والأسرى لدى الجماعات المسلحة أو إيقاف قصف المدن بـ«الهاون» والقذائف الصاروخية وغيرها الكثير من الأمور التي ترتكبها الجماعات المسلحة، الأمر الذي سيستفز شرائح المجتمع السوري برمته.
خامساً: تعمَّدت الرياض المساواة بين الوجود العسكري الروسي في سورية ووجود المقاتلين الأجانب أيضاً، عبر نعتهم بالإرهابيين ضمناً، وأنّ الحلّ النهائي يقضي بطردهم من سورية، وبالتالي تقصدت الرياض إبقاء مستويات التوتر عالية مع موسكو سياسياً وربما عسكرياً، في محاولة لتخفيف الضغط عن حليفتها اللدودة تركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية لإظهار أنّ الوجود الروسي قي المنطقة هو معاد لدولها، ولعلني لا البالغ إذا قلت أنّ ردّ فعل القيادة الروسية على هذا التصنيف السعودي لن يكون أقلّ حدة من رد فعلها على حادثة الإسقاط ذاتها لأنّ الحالتين هما في المبدأ فعل عدواني ومحاولة لتوجيه صفعة سياسية.
بالنتيجة عكس البيان الختامي لمؤتمر الرياض سقفاً سياسياً وعسكرياً عالياً المُراد منه إجهاض أطر فيينا للحلّ وما يستتبعه من مؤتمرات تجمع الحكومة الشرعية مع وفد المعارضات السورية، فالسعودية باتت تدرك استحالة سقوط الدولة السورية وأنّ الواقع الجيوبوليتيكي في الشرق الأوسط قد تغير، وبالتالي تحاول المملكة إبقاء مستويات التوتر عالية في الشرق الأوسط انطلاقاً من الأزمة السورية، ريثما يتبلور موقف أميركي جديد مع الرئيس الجديد المرتقب مطلع العام 2017، ولكن فات حكام الخليج أنّ سباقاً دولياً على مراكز القوة في ترتيب النسق الدولي قد انطلق بتاريخ 30/9/2015، ومن الأرض السورية، وأنّ حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في الأجواء السورية وفتح القواعد العسكرية الأطلسية في المتوسط بذريعة محاربة «داعش» لتطويق روسيا، عقّد من الأزمة السورية وزاد من التصلب الروسي وجعل من حراك السعودية، جملة وتفصيلاً، حدثاً ثانوياً بل مشاغبة في لعبة بدأت تزداد خطورتها بين المحور الأوراسي والمحور الأطلسي الذي قرَّر مواكبة الدخول الروسي إلى الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً.