لِمَ تحذّر روسيا من التدخل العسكري في أوكرانيا؟
حميدي العبدالله
على عكس موقفها من القرم، لوحظ أن روسيا تحذر من التورط العسكري في النـزاع الدائر في أوكرانيا بين المقاطعات الجنوبية والشرقية وسلطة كييف.
على رغم أن سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية قاموا بتحركات مماثلة لتحركات سكان القرم، وأجروا استفتاءً يؤكد رغبتهم في الانفصال، وأعلنوا كيانات مستقلة في بعض المقاطعات وطالبوا بالدعم الروسي، إلاّ أن موسكو لم تستجب للنداءات على رغم اندلاع الحرب ولجوء أكثر من مئة ألف أوكراني من هذه المقاطعات إلى روسيا هرباً من الحرب. بل أكثر من ذلك، طلبت روسيا رسمياً تأجيل الاستفتاء على الاستقلال عشية إجرائه، وألغى الرئيس الروسي الأسبوع الفائت قراراً يجيز لـه التدخل العسكري في أوكرانيا، وتصرّ موسكو على ضرورة إجراء حوار بين المقاطعات الجنوبية والشرقية وسلطة كييف، واعترفت بالانتخابات التي جرت في أوكرانيا، على رغم أن هذه الانتخابات لم تجر في المقاطعات الشرقية والجنوبية.
لا شك في أن ثمة حسابات استراتيجية تفسر السلوك الروسي حيال ما يجري في أوكرانيا، وتندرج في إطار هذه الحسابات العوامل الأربعة الآتية:
أولاً، تفادي الوقوع في الفخ الذي نصبه الغرب لروسيا، فموسكو على اقتناع بأن الغرب يريد توريطها في نـزاع مسلح في أوكرانيا لاستنـزاف قدراتها العسكرية، ليكون هذا التدخل مبرراً للولايات المتحدة كي تحرّض الدول الأوروبية على روسيا وقطع العلاقات الاقتصادية المتطورة والشراكة الاقتصادية الواسعة التي تجمع الاتحاد الأوروبي ودوله المختلفة مع روسيا، وترى روسيا أن ليس من مصلحتها إعطاء الولايات المتحدة مثل هذه الفرصة.
ثانياً، روسيا واثقة من أن سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية يملكون القدرات العسكرية والتأييد الشعبي، ما يتيح لهذه المقاطعات الصمود واستنـزاف الطرف الآخر وإرغامه على قبول حلول تلبي مصالح هذه المقاطعات وتطلعاتها وتتطابق مع رؤية روسيا التي تدعو إلى إقامة شكل من أشكال الفدرالية بين شرق أوكرانيا وجنوبها وغربها. صمود المقاطعات الشرقية والجنوبية، وقدرتها على المقاومة العسكرية، واكتفاء موسكو بتقديم المعدات العسكرية والخبراء فحسب، بات يشكل استنـزافاً لسلطة كييف والدول الغربية، وضمن هذه الحسابات ترى موسكو أنها نجحت في تحويل الأزمة الأوكرانية من فرصة للغرب للضغط على روسيا، إلى عنصر ضغط على أوروبا وعلى الولايات المتحدة، ويعتبر ذلك نجاحاً استراتيجياً للمقاربة الروسية الحالية للأزمة الأوكرانية، لا سيما أن روسيا بضمها القرم إلى الاتحاد الروسي قطعت الطريق على أيّ أخطار تهدد أمن روسيا وحرية الحركة أمام أساطيلها.
ثالثاً، تراهن روسيا على أن أوكرانيا لا تستطيع الاستغناء عن الدعم الاقتصادي الروسي، ليس عن طريق إمدادات الغاز بأسعار منخفضة فحسب، بل وأيضاً لأن الأسواق الروسية هي وجهة التصدير الأساسية لتصريف السلع الأوكرانية.
رابعاً، الغرب لا يستطيع المنهك اقتصادياً تحمل أعباء النهوض بالاقتصاد الأوكراني، كما أن غالبية الدول الأوروبية لا ترى أن لها مصلحة في فتح معارك مع روسيا تشبه معارك الحرب البادرة، لأن من شأن ذلك أن يؤثر سلباً على أوضاعها الاقتصادية، بخاصة أن روسيا هي اليوم دولة رأسمالية ومجال مفتوح للاستثمارات الغربية، والغرب في حاجة إلى السوق الروسية، وشركاته في حاجة إلى الاستثمار في روسيا.
هذه الحسابات مجتمعة أملت طبيعة السياسة الروسية الحذرة وحدّدتها، وهي تتلافى الانجرار إلى مواجهة عسكرية مفتوحة داخل أوكرانيا، إلا إذا فرضت عليها مثل هذه المواجهة وهذا احتمال لا يزال ضعيفاً حتى الآن.