شهادة وفاءٍ لوطن

كان فارس فتى الحارة القويّ، المحبوب من أهالي حارته، واثقاً من نفسه وقدراته منذ صغره، لا شيء يضعفه سوى محبته لابنة الحارة الجميلة، فاتن الفتاة الهادئة بوجهها الملائكيّ الذي يفيض رقةً وجمالاً. فكان فارس يتسمّر في مكانه كالأبله حينما تمرّ فاتن أمامه وضفائرها الليلكية تتمايل على ظهرها كأنها تغيظه، فيتوقف عن اللعب مع رفاقه إلى أن تغيب عن ناظريه .

كبر فتانا وهو يحبّ فاتن، ولم يكن ذلك خافياً على أحد. حتى هي كانت تعرف أنه يحبّها لكنها أبداً لم تمنحه نظرة واحدة تشجّعه فيها على أن يتقدّم خطوة واحدة. ومع ذلك، لم ييأس، وقبل أن يذهب للالتحاق بالكلّية العسكرية، أوقفها بعدما تجرّأ أخيراً واستجمع شجاعته المعروفة، انتظرها أمام بيتها وسلّم عليها بكل احترام وسألها: «هل تقبلين بي زوجاً بعدما أنهي دراستي في الأكاديمية؟»، فكان جوابها نفياً، وكان سبب النفي أنها تريد جاهاً وشهادة ومركزاً!

انتسب فارس إلى الكلّية العسكرية، فغادر الحارة لأشهر، ليعود أياماً يقضيها مع أهله وأصدقاءه ويلمح محبوبته من بعيد. هو لا يزال يحلم بها ويريدها. فهي فتاة أحلامه منذ كان صغيراً، يعرفها ويعرف عدد ابتساماتها وطريقة مشيتها، يعرف نوع عطرها إن هي مرّت في الشارع قبله. أحلامه كلّها كانت لها وعليها بنى مستقبله. فكيف يستطيع أن يتنازل عن حلمه وقد كانت في كلّ أحلامه الفتاة الوحيدة التي يريدها؟

بعد سنوات عدّة، تخرّج فارس ضابطاً بدرجة امتياز. أحبه رؤساؤه وزملاؤه وكان مثالاً للضابط المحترم والواثق من نفسه. وبقيت فاتن فتاة أحلامه التي لا تتغيّر. مضت الأيام إلى ان اندلعت الحرب على سورية. استدُعيَ فارس لأداء واجبه الوطنيّ، فغاب عن حارته لأكثر من ستة أشهر، وحينما عاد ليقضي يومين مع أهله، التقى حبيبة قلبه وهي خارجة من البناء الذي يسكن فيه. للحظات، تجمّد الدم في عروقه، فها هو وبعد سنين وجهاً لوجهٍ مع فاتن. ارتبك ولكن ابتسامتها التي فاجأته بها غمرته بإحساس جميل، ليبتسم بدوره. حيّته هامسةً :«الله محيي أصلك يا بطل» .

ليجيبها وبكلّ هدوء: « شكراً لك، ادعي لنا في صلاتك» .

لتبتسم وهي تفتح الباب وتقول :«ليكن الله معك دائماً».

وقف فارس أمام الباب يتأملها وهي تمشي، شعرها المتطاير يحرّك فيه مشاعر لا تحصى، تردّد في لحاقها إلا أنه عدل عن ذلك وتوجّه إلى باب بيته.

هذا كلّ ما كان منها في إجازاته النادرة، فأصبحت صورة وجهها المبتسم تساعده في الصمود وتحدّي الموت ليعود إليها. في المعارك كان ضابطاً قيدوماً لا يخشى الموت، مقداماً وشجاعاً أحرز بفضل ذكائه انتصارات كثيرة، كانت تصل أصداؤها إلى مسامع أهل حارته وإلى أذنَي فاتن فتبتسم ولا تعلّق .

إلى أن كان ذلك اليوم الذي أصابته فيه قنبلة غادرة قطعت رجله ويده، وأدخلته في غيبوبة لم يستيقظ منها سوى على سرير في المستشفى العسكريّ، ليفتح عينيه ويرى نفسه محاطاً بجدران بيضاء صامتة، ووجه أمه وهي تمسك يده الباقية وتبكي. نظر إليها وابتسم متألماً وهو يحاول أن يكبت دموعاً صامتة من أن تخرّ ضعيفة أمام والدته المسكينة .

إحساس رهيب اجتاحه وهو يتحسّس أعضاء جسده المفقودة، فالموت كان أرحم له من أن يعود عاجزاً إلى أهله. هو الرجل الذي لا يهاب، أصبح اليوم… مُقعداً. صرخاته الداخلية توقفت أمام دموع والدته وابتسامة والده الذي قبّله على جبينه وقال له :«ابني البطل، فخور بك يا فلذة كبدي» .

ابتسم في وجه والده، لكن دموعه أبت إلا أن تنتفضّ من عيونه وكأنها تقول لوالده: «سامحني». غمره والده ومسح دموعه وهو يقول له :« يا بنيّ، أنت بطلي وفخري وكلّ حياتي، جعلتني فخوراً بك ورفعت رأسي عالياً، أرجوك لا تبك، فأنت بطل، بطلي وابني وحياتي» .

عند سماعه هذا الكلام، نسي فارس ألمه وفقدانه يده ورجله اليُمنيين، فأخذ نفساً عميقاً، ومن روح الألم أخذ يقصّ على والديه قصص استشهاد زملائه وبطولاتهم، والمعارك التي خاضها وكيف نجا من الأخطار الكثيرة. وبينما كان يتكلم بانفعال، إذ بطرقات ناعمة على الباب، ويطل من خلفه وجه فاتن ـ فتاة أحلامه ـ بشعرها الليلكيّ الذي يحبّه. دخلت فاتن إلى الغرفة مبتسمة وهي تقول: «حمداً لله على سلامتك يا بطل»!

المفاجأة عقدت لسان فارس. أمه وأبوه ابتسما. حضنتها أمه، وقبّل جبينها والده. وعندما همّ بأن يقول شيئاً، وضعت أصابعها على فمه، ونظرت إلى وجهه وابتسمت، أمسكت يده، قبّلتها وأبقتها في يدها، وبكل هدوء وثقة قالت له: «كنت أفتش في الماضي عن المركز والجاه والشهادة، أما الآن وبعدما عشنا الحرب عرفتُ أن مركز الإنسان وطن يضحّي من أجله بحياته، وأن الجاه هو ذلك المعدن الأصيل الذي تتمتع به، أما الشهادة فماذا أريد أكثر من شهادة وفاء لوطن لم تتخلّ عنه؟»!

نظر فارس إليها متأثراً بكلامها، ومع ذلك، وبكلّ جرأة كشف الشرشف عن جسده، وبصمت أمسك يدها ووضعها على ساقه المبتورة. فأبقتها ولم تنتفض كما كان يعتقد. وبصوت ذي نبرة ساخرة ومندهشة، قال لها وهو ينظر إلى عينيها: «هذا ما أنا عليه اليوم، لم أعد فارس الذي كنتِ تعرفينه» .

بهدوء، وضعت يدها الثانية على وجهه بحنان، ونظرت إلى عينيه وافتر ثغرها عن ابتسامة آتية من إنسانة حقيقية وقالت له: «أنت تغيرت جسدياً وأنا تغيّرت روحياً» .

صمتت للحظات، وسرّحت بيدها شعره الأسود، وبصوت مرتعش همست: «أنت فارسي الذي دافع عنّي وعن أهلي وعن وطني، أنت الرجل الذي لم يهب الموت، فماذا أريد أكثر لتكون أنت بطلي وحبيبي وزوجي؟»!

فيليبا صرّاف

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى