صار للعرب غيفارا وعندهم نصرالله … فانتظروا
روزانا رمّال
لم يعُد ممكناً بعد اليوم التحدّث عن سمير القنطار الأسير أو المحرّر أو المقاوم أو الشهيد فقط، لأنه لم يعُد كذلك.
شهدت المنطقة العربية أمس صناعة رمز نضالي ثوري لها في التاريخ الحديث، رمز لا يقلّ على الإطلاق عن رموز مثل غيفارا وكاسترو وحتى مانديلا وما أسّست مدارسهم من سنوات سجن واعتقال وتحديات وصبر لسنوات مدعّمة بالثبات وعدم الاستسلام أو تغيير الهدف وتموضعه بتغيير الزمن والظروف. يُرفع اليوم سمير القنطار إلى فئة القائد الثوري الدولي الذي ستتعلّم منه مدارس الكفاح والجهاد كلّها من كوبا إلى فنزويلا فالأرجنتين وفيتنام إلى كوريا الشمالية ولبنان والعراق وإيران وسورية واليمن وفلسطين.
إننا نتحدّث اليوم عن فجر جديد من القادة وعن هالة من غير المسموح تجاهل مستوى تأثيرها في النفوس وعن مسيرة لا يمكن أن يختارها كائن مَن كان.
جبل من الصبر، عنفوان قاهر، وصخرة صمود، إنّ قدرة تحدي الحياة والتأقلم مع أصعب الظروف لأكثر من ثلاثين عاماً ليس خياراً عادياً، وهذا خيار ليس لكلّ الناس. هذا الخيار هو فقط لمن أراد أن يؤسّس ويغرس مفاهيم لجيل مقبل يحمل هذا الرصيد كأسس ومبادئ يُبنى عليها تثقيف مَن سيعتنقون هذا الخيار بعدَه.
لن تعرف «إسرائيل» ماذا فعلت بسرعة، لكنها ستدرك تدريجياً أنها منحت العرب رمزاً نضالياً ومدرسة لن تموت وستعرف معناها عندما تراقب الأيام المقبلة حين يصرخ شباب وشابات باسم سمير القنطار وحين يحضر اسمه في كلّ ساحات النضال في العالم. سيخلد اسم القنطار في فلسطين التي شرب من مياهها ثلاثين عاماً ستُكتب محاور وأجزاء من مؤلفات وكتب تدرس في الجامعات والمؤسسات العسكرية والكتب ستصبح ثقافة سمير القنطار ثقافة شعبية تتغنّى بها الأجيال المقاومة وسيصبح «ملهماً» ولو بعد سنوات طويلة، تماماً كما أصبح غيفارا ملهماً للشباب والشابات وغيره من الرموز، ولكلّ قصته المختلفة.
ثلاثون عاماً في الأسر خرّج آلاف الأسرى كان ممكناً أن يخرج القنطار ليعيش ما لم يَعِشْه واستكشاف هذه الدنيا التي حُرم منها في شبابه، وهو معذور في كلّ ذلك.
المفاجأة هي بعد استشهاد القنطار الذي ربما لم يكن من المتوقع أن يضخّ هذا السيل الجارف من الأحاسيس في صفوف محبّيه. وربما هم أنفسهم كانوا يعتبرون أنه اختار طريقاً من المتوقع أنه سيلاقي مصير الشهادة فيه، وإذ بالقنطار قيمة أكبر بكثير بعد موته، ورمز يتسلّل إلى نفوسهم من دون أن يشعروا. الكلّ يتذكّر ويعدّ سنين أسر قاسية. «يا له من بطل»، يا لها من حياة، كيف تجرأ وعاود التفكير في الانخراط بالعمل المقاوم، مؤسف هنا مقارنة بعض العسكريين اللبنانيين المحرّرين من قبضة «جبهة النصرة» والذين فكّر بعضهم سريعاً باحتمالات ترك السلك العسكري برمّته. هؤلاء ربما بعضهم معذور، لكنّ سلوكاً من هذا القبيل كفيل ليوضح ويحكي نموذج سمير الفريد والنادر.
كان يريد أن يعيش في فلسطين، لكنه لم يستطع وتوجّه إلى سورية للقتال في الجولان، أيّ المكان حيث المعركة التي تذكّره بصراعه الطويل ضدّ «إسرائيل»، أراد الانتقام منها في كلّ دقيقة تمرّ، أراد الانتقام لأسرى تركهم ينتظر بعضهم حكم المؤبد، كما كان ينتظر، أسرى غير محظوظين مثله برجال مقاومة وبقائد كالسيد حسن نصرالله الذي وعد بإخراج الأسرى، ووفى بوعده عام 2006، وعلى رأسهم عميدهم سمير، هذا كله كان يعرفه وينتقم كلّ دقيقة لأجل فلسطين.
حماقة جديدة تنضمّ اليوم إلى سلسلة حماقات «إسرائيل» باغتيال سمير، فهي عندما خاضت حرب تموز لم تعرف إلا عبر لجنة «فينوغراد» حجم فعلتها، وقد استدرجت حزب الله نحو توازن ردع جديد وعرّت جيشها وكشفت ثغراته.. وكسر حزب الله الجيش الذي لا يقهر. أما اليوم فستحتاج «إسرائيل» إلى بعض الوقت لتدرك أنّ حماقتها في اغتيال القنطار شديدة التأثير، لأنّ هذا الرجل ليس لبنانياً فقط أو يختصر اسمه معركة تنتهي، بل إنها توّجت رمزاً على قلوب ثوار فلسطين الحقيقيين في زمن الهبّة الفلسطينية، حيث ارتكبت باغتياله سقطة أمنية كبرى تؤكد تفكير هذا الجهاز الأمني «الإسرائيلي» المجنون. فكيف يمكن اغتيال القنطار في ظروف كهذه؟ ألا تعرف «إسرائيل» أنه قادر على إعطاء زخم أكبر للقضية؟ ألا تعرف أنها قدّمت لأهل فلسطين أيقونة ساحرة بقصتها كاملة متكاملة بين أسر وصبر ونضال واستمرار؟
نعم، شمت بعض «الإسرائيليين» بالقنطار فذكّر اللبنانيين بأنهم تكلّفوا حرباً من أجله، كان من الممكن تفاديها، لكنهم لا يعرفون أن الردّ قد يكلف حرباً ثانية بات جمهور المقاومة متعطشاً لها، لأنّ الحساب قد كبر ولن تخضع حسابات المقاومة لجنون «إسرائيل» وقراراتها العشوائية.
أصبح الكابوس أقسى وطول: عماد وحسان وجهاد وسمير..
درسٌ، توقيتٌ، تجهيزٌ، تحديدٌ، فحربٌ.