باراك أوباما… هل هو الأسوأ حقّاً في الميزان الأميركيّ؟

د. أسامة دنورة

يكاد يكون معروفاً عن الأميركيين أنهم شغوفون بأمرين، مقاضاة بعضهم البعض الآخر، وإجراء استطلاعاتٍ للرأي. وإذا كان شغف الأميركيين الأول يعكس قناعتهم بنظامهم القضائي، وهو ما لا ينسجم مع تردي معايير العدالة في سياستهم الخارجية، فإن شغفهم الآخر يعكس تشكيكهم الدائم في أداء مسؤوليهم على المستوى الفدرالي على الأقل، بما في ذلك الإدارة الأميركية، وهو هوسٌ تصاعد بشدة إثر تورّط نيكسون في فضيحة ووترغيت، وتوريط بوش الإبن للأميركيين في حربه المزعومة على الإرهاب، تلك الحرب التي مهدت عبر تدمير العراق لأكبر انتشار للبنى والتنظيمات الإرهابية عبر التاريخ.

استطلاعٌ جديدٌ للرأي في الولايات المتحدة أظهر قبل يومين أن الرئيس الأميركي باراك أوباما احتلّ المرتبة الأولى كأسوأ رئيس أميركي منذ الحرب العالمية الثانية، فبحسب المسح الذي أجري في جامعة كوينيبياك، وجد 33 في المئة من المستطلعة آراؤهم أن أوباما أسوأ رئيس أميركي خلال الأعوام السبعين الماضية، مقابل 28 في المئة لجورج دبليو بوش… وأظهر الاستطلاع أن 35 في المئة وجدوا أن الرئيس رونالد ريغان هو الأفضل ! منذ 1945، فيما اختار 18في المئة بيل كلينتون و15في المئة جون كينيدي!

مما لا شك فيه أن توجهات الرأي العام التي تكشف عنها استطلاعات الرأي تعكس إلى حد بعيد تأثير الإعلام الأميركي في تشكيل آراء العامة، وقد دأبت وسائل الإعلام الأميركية في غالبيتها العظمى على تصعيد انتقاداتها لأوباما على خلفية ما يقال عن ضعف سياسته الخارجية وإحجامه عن التدخل الفاعل على مستوى العديد من الملفات الساخنة على الصعيد العالمي، وفي طليعتها الأزمة السورية.

شهدت وتيرة الانتقادات تلك تصاعداً ملموساً إثر إحجام أوباما عن تنفيذ الضربة العسكرية التي هدّد بها سورية العام الفائت، وتلت ذلك حملة إعلامية مركزة شارك فيها العديد من المسؤولين بتصريحاتهم حول تأخر إدارة أوباما في تسليح المعارضة «المعتدلة» المقربة من الغرب، ما فتح المجال واسعاً أمام تمدّد «النفوذ الإرهابي»… فهل حقاً «قصّر» أوباما في الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأميركية، وهل حقاً كانت استراتيجيته أكثر انكفاءً وأكثر سلمية؟

من المعروف، في صورة لا يرقى إليها الشك، أن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأكثر شنّاً للحروب على مدى التاريخ وعلى مستوى العالم، ومن يتابع تاريخ المغامرات العسكرية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم يجد عدداً مهولاً من الحروب والضربات العسكرية وعمليات الإنزال التي شنّها البنتاغون ضد العديد من الدول المستقلة، وهذه القائمة الطويلة تتضمن فييتنام وصربيا وهاييتي وليبيا والعراق والصومال ولاوس وكمبوديا ولبنان وإيران وبنما وكوريا ويوغوسلافيا وأفغانستان وغرينادا، عدا ما سقط سهواً هنا أو هناك…

لكن من يتابع تاريخ التورط العسكري الأميركي حول العالم يجد أيضاً أن خوض الولايات المتحدة للحروب الكبرى غالباً ما كان محكوماً بفواصل زمنية طويلة نسبياً قد تصل إلى عقد أو عقد ونصف عقد، لا سيما إذا كان التورط الأميركي يتضمن نشراً للجيش الأميركي أو مشاة البحرية على الأرض… فبعد انتهاء الحرب في كوريا عام 1953، تطلب الأمر من الطبقة السياسية الأميركية عقداً ونيفاً من الزمن قبل أن تباشر مجدداً في نشر قواتها على أراضي فييتنام عام 1965. هذا التورط الأميركي في الهند الصينية والذي انتهى بسقوط سايغون عام 1975 كان الأشدّ وطأة على الأميركيين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث منعت تداعياته الولايات المتحدة من التوجه إلى حرب رئيسية أخرى حتى عام 1991، تاريخ شنّها عملية «عاصفة الصحراء» ضد العراق، وهو تاريخ مرّ عليه لاحقاً عقد ونيف أيضاً قبل أن تتوجه الولايات المتحدة نحو غزو العراق من جديد عام 2003.

إنّ المدة التي تفصل بين حربين رئيسيتين تخوضهما الولايات المتحدة هي بمثابة فترة شلل موقت للذراع العسكرية الأميركية، شللٌ تفرضه اعتبارات الخسائر البشرية والكلف المادية والضغوط السياسية والمعنوية التي يفرزها تذمر الرأي العام الأميركي من خوض حروب في مناطق شاسعة البعد عن الأرض الأميركية، ولاعتبارات تبدو غير مقنعةٍ للشعب الأميركي كونها لا تمس حياته بصورة مباشرة، ويكفي القول إن ما نسبته 10 في المئة فحسب من فئة الشبّان الأميركيين في سن التجنيد أمكنهم أن يحددوا موقع العراق على خريطة العالم خلال حرب الخليج الثانية.

بالتزامن مع مدة الشلل العسكري الموقت تلك، والتي تفرضها اعتبارات استراتيجية لا أخلاقية ولا مبدئية، تبدو الإدارات الأميركية الحاكمة بمظهر الضعيف أو العاجز على الصعيد الخارجي، فالإدارات الأميركية المتعاقبة التي أدمنت استخدام المقاربة العسكرية كعنصر رئيسي في سياستها الخارجية، أو ما يسمى بـ«دبلوماسية مدفع البارجة» The Gunboat Diplomacy، تجد نفسها في وضع شلل وانكفاء عندما تُغَلُّ ذراعها العسكرية، فتتحول عندئذٍ تحديداً إلى المقاربات السياسية والمبادرات التي تهدف إلى إدارة الأزمات وحصد المكاسب وإمرار حقبة الانكفاء العسكري بأقل الخسائر الممكنة… وتلك كانت حال الرئيس آيزنهاور الذي لم تملك الولايات المتحدة قدرة على شن الحروب في عهده عقب انتهاء الحرب الكورية، رغم كونه من أبرز القيادات العسكرية ومهندس اجتياح أوروبا في الحرب العالمية الثانية، ورغم انتمائه الجمهوري. وكذلك كانت الحال مع إدارة جيمي كارتر التي عملت على إدارة حقبة ما بعد حرب فييتنام، واشتهرت برعايتها اتفاقيات كامب ديفيد التي أفضت إلى توقيع «معاهدة السلام» بين مصر و«إسرائيل»… وهي أيضاً حال إدارة كلينتون التي حكمت لفترتين متعاقبتين، وأدارت مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية وقطفت ثمارها الاستراتيجية لمصلحة الولايات المتحدة و«إسرائيل» عبر اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة عامي 1993 و1994 على التوالي.

في العديد من المفاصل التاريخية، كانت المصالح الإمبريالية الأميركية، في حاجة إلى استمرار العمل العسكري في حقبة الانكفاء، وهنا لم يكن ثمة بديل للولايات المتحدة سوى أن تقوم بشن حروبها بالوكالة، فالحرب العراقية الإيرانية كانت حرباً أميركية بالوكالة ضد الثورة الإيرانية، وشُنت بتمويل ودعم وتحريض من وكلاء الولايات المتحدة في ممالك الخليج العربي ومشيخاته، والحرب الإرهابية التي تُشن ضد سورية والعراق وحزب الله وإيران اليوم هي حرب أميركية «إسرائيلية» بالوكالة، وبتمويل ودعم وتحريض من الأطراف الخليجية ذاتها.

إدارة باراك أوباما هي، بالمقارنة مع سائر الإدارات السابقة، صاحبة النجاح الأكبر في شن حرب شرق أوسطية عظمى بالوكالة حقّقت عبرها ما لم تحققه سابقاتها عبر التدخل العسكري المباشر. فالولايات المتحدة و«إسرائيل» تخوضان حربهما اليوم بمالٍ عربي، وبدمٍ عربي، وبسائر مقدراتِ أمةٍ ضحكت من جهلها الأمم!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى