تقرير
كتبت مجلة «لندن بوك ريفيو»: ينقل الكاتب الصحافي سيمور هيرش عن مصدر سابق في البنتاغون، أن الرياض لم تكن المشكلة الوحيدة أمام التوقف عن تسليح الجماعات المتطرّفة في سورية، فالاستخبارات الأميركية جمعت معلومات تثبت أن حكومة أردوغان دعمت «جبهة النصرة» لسنوات، وأنها أصبحت تقوم بالأمر نفسه مع «داعش».
لم يستمع أوباما إلى تحذيرات وكالة الاستخبارات الدفاعية حول ما يحدق من مخاطر في حال الإطاحة بالرئيس الأسد. يقول مسؤولون في البنتاغون إن الرئيس الأميركي تأسره صورة الحرب الباردة والصين وروسيا، وأن حقيقة أن كلا البلدين يشاركانه القلق نفسه من تفشّي «داعش» والإرهاب، لم تغير من موقفه في شيء.
الكاتب الأميركي سيمور هيرش فجّر قنبلة أمس عندما تحدث عن اختلاف بين البيت الأبيض والقيادة العسكرية الأميركية حول مآل الأمور في سورية. تحدث عن تقييم سرّي أعدته الاستخبارات الدفاعية الأميركية عام 2013، أدار البيت الأبيض له أذنه الصمّاء.
في صيف تلك السنة، لم تكن الأزمة الليبية قد انتهت. كان قد مرّ على بداية أحداث سورية سنتان. كانت سبّحة «الربيع العربي» تكرّ وكانت «سي آي آي» تنشط في إرسال السلاح واللوجستيات من ليبيا إلى «الثوار» في غير مكان لا سيما سورية، على اعتبار أنهم «مقاتلون معتدلون». في المقلب الاستخباري العسكري، كان التقييم أقرب إلى السوداوية.
يقول مستشار سابق في البنتاغون لهيرش إن ما بدأ كبرنامج سرّي أميركي لتسليح «المعتدلين» ممن يقاتلون الأسد تحوّل بمساعدة تركية إلى تدفق للسلاح والمقاتلين والتقنيات واللوجستيات إلى كلّ «المعارضة المسلحة» بما في ذلك «جبهة النصرة» و«داعش». «الجيش الحرّ»، يكمل المستشار، كان مجموعة صغيرة متمركزة في قاعدة جوّية في تركيا. بالنتيجة جاء التقييم كئيباً: لا «معارضة معتدلة» تقاتل الأسد، والولايات المتحدة تسلّح المتطرّفين الذين يسيطرون على «المعارضة المسلحة»، وتركيا هي المعيق الوحيد لتطبيق سياسة أوباما اتجاه سورية وتسليح «معارضة معتدلة».
هاجس رحيل الأسد الذي استسلمت له الولايات المتحدة مؤخراً بحسب «واشنطن بوست» أعمى بصيرة البيت الأبيض عن البديل. «أيّ بديل هو أفضل من الأسد» كان هدف القيادة المدنية الأميركية. ولكن من البديل إذا كان المتطرّفون يسيطرون على المعارضة؟ يقول المدير السابق لوكالة الاستخبارات الدفاعية مايكل فلين لهيرش: «لو عرضت التقارير الاستخبارية الحساسة التي كنّا نصدرها عن النتائج الوخيمة لسقوط الأسد في هذه الحالة لقامت القيامة. ماذا يصنع المستوى العسكري الأميركي، وهو يعلم أن فرص معارضته سياسة أوباما خاسرة لا محالة، وهو حاول أيضاً حثّ الأتراك على وقف تدفّق المقاتلين الأجانب من دون جدوى؟».
في خريف عام 2013، يقول مستشار البنتاغون السابق لهيرش، قرّرت هيئة الأركان المشتركة اتخاذ خطوات من خارج القنوات السياسية: جيش لجيش. هي تعلم أن القيادة العسكرية السورية لم تنقطع علاقتها بقيادات عسكرية كثيرة في العالم، على رأسها الألمانية والروسية. تقرّر حينذاك إرسال التقارير الاستخبارية العسكرية الأميركية إلى أكثر من جهة نظيرة، علّها تصل بطريقة أو بأخرى إلى الجيش السوري وتستخدم ضد التهديد المشترك، «جبهة النصرة» و«داعش».
بحسب مستشار البنتاغون السابق، بدأ تدفق المعلومات حول أماكن تواجد المتطرّفين ونواياهم إزاء الجيش السوري، وفي المقابل كانت سورية تعطي معلومات عن قدراتها ونواياها. «لم تكن محاولة للالتفاف على أوباما بقدر ما كانت هيئة الأركان المشتركة مقتنعة بأن أمراً جيداً سيتمخض عن ذلك. إن بقي الأسد في السلطة فليس لأننا قمنا بذلك، بل لأنه كان ذكياً لاستخدامه هذه المعلومات والنصائح التكتيكية التي وفّرناها للآخرين»، ينقل هيرش عن المستشار.
يصف مستشار هيئة الأركان المشتركة السابق الرئيس الأسد بأنه كان متعاوناً مع الأميركيين في مكافحة الإرهاب وحركة «الإخوان المسلمين» في سورية وألمانيا، وكيف أن استخباراته أحبطت هجوماً لـ«القاعدة» على قيادة الأسطول الخامس في البحرية الأميركية في البحرين، وأن واشنطن في المقابل كانت فظّة معه «وخرقاء في التعامل مع الذهب المعلومات الاستخبارية التي كان يرسلها إلينا». هذا التاريخ من التعاون، يضيف المستشار، جعل قبول دمشق بهذا التعاون الاستخباري غير المباشر مع الولايات المتحدة أمراً ممكناً عام 2013.
وينقل هيرش عن المستشار أن هيئة الأركان المشتركة أرادت من دمشق في المقابل منع حزب الله من مهاجمة «إسرائيل»، وإحياء المفاوضات المتوقفة مع «تل أبيب» حول الجولان، والقبول بمستشارين عسكريين روس وغير روس على أراضيها، والالتزام بانتخابات بعد الحرب تشكّل مروحة من الفصائل السورية «المعارضة». سورية أرادت تأكيدات بأن الأميركيين وغيرهم جادّون في طرحهم للمساعدة: رأس بندر بن سلطان.
صديق للأسد أوصل إلى هيئة الأركان المشتركة أن بادرة حسن النيّة الأميركية إزاء الأسد تكون بإزاحة السفير السعودي السابق في واشنطن وأمين عام مجلس الأمن القومي السعودي، والمنظّر الأساسي للإطاحة بالأسد بندر بن سلطان. استقال الأخير من منصبه عام 2014، ولكن السعودية بقيت ممولاً رئيسياً لـ«المعارضة السورية» التي تسيطر عليها المجموعات المتطرّفة بمبلغ ناهز 700 مليون دولار حتى سنة استقالة بن سلطان.
يكمل مستشار هيئة الأركان المشتركة السابق بالقول إن وكالة الاستخبارات الدفاعية أرادت طمأنة الأسد أكثر. في ذلك الحين كانت وكالة الاستخبارات المركزية تدير عمليات نقل الأسلحة من ليبيا إلى تركيا ثم إلى المقاتلين المتطرّفين في سورية، وما كان من سبيل لوقف ذلك لأنه بطلب مباشر من الرئيس أوباما. ما قامت به هيئة الأركان المشتركة أن اقترحت على وكالة الاستخبارات المركزية أن تقوم بنقل الأسلحة التركية إلى سورية، تحسباً للوقت وللكلفة. كانت الهيئة تثق بمعارضي أردوغان، واتّكلت على شحن الأسلحة القديمة للمقاتلين بما في ذلك بنادق «أم 1» التي لم تستخدم منذ الحرب الكورية. الرسالة من وراء ذلك للأسد، يقول المستشار، أنّ هئية الأركان تستطيع إضعاف سياسة الرئيس بأساليبها.
جاء تدفّق المعلومات الاستخبارية ودخول الأسلحة القديمة إلى المسلحين بحسب المستشار في وقت دقيق جداً، كان الجيش السوري فيه يتلقى ضربات قوية من «النصرة» و«داعش». ولكن ما أن أثمرت الخطوة تقدّماً للجيش السوري على الأرض، حتى قامت السعودية وقطر وتركيا بضخّ الأموال لـ«النصرة» و«داعش»، وانعكس ذلك سيطرة للتنظيمين على جهتَي الحدود السورية ـ العراقية.
تفاقمت سيطرة التنظيمات المتطرّفة في سورية وباءت محاولة وكالة الاستخبارات الأميركية تدريب مقاتلين «معتدلين» أقل من 100 لقتال «داعش» و«النصرة» بالفشل. اتجهت «سي آي آي» إلى جمع قادة الاستخبارات العربية السنّية في محاولة منها لإقناع السعودية بوقف دعم المتطرّفين في سورية. النتيجة كانت بحسب المستشار، أن السعودية زادت من حجم دعمها هذه المجموعات. لم تكن السعودية المشكلة الوحيدة. الاستخبارات الأميركية، يقول المستشار السابق لهيرش، كانت قد راكمت معلومات عن دعم تركيا لـ«جبهة النصرة» على مدى سنوات، وأنها أضحت تدعم «داعش» أيضاً. نستطيع التعامل مع السعودية ومع «الإخوان المسلمين»، يضيف المستشار، ولكن يمكن لتركيا زعزعة التوازن في الشرق الأوسط، وهو حلم أردوغان لإعادة السلطنة العثمانية.
لم ينقطع التواصل بين الأميركيين والروس طوال فترة الأزمة السورية. فبعيد اعتداءات 11/9 كان القلق الروسي من «الخلافة» في الشيشان يحاكيه القلق الأميركي من «القاعدة». أما اليوم، فالقلق واحد ومن مصدر واحد. كلام أحد مستشاري البيت الأبيض السابقين هذا لسيمور هيرش لا ينفي حقيقة أن البيت الأبيض مستاء من الدخول الروسي إلى سورية. فلاديمير بوتين لا يريد أن يسقط الأسد وأن تعمّ الفوضى وتقع سورية في يد «داعش». الرجل عسكري واستخباري مخضرم وله تجربة مريرة مع الناتو في ليبيا لا يريدها أن تتكرّر في سورية.
على عكس أوباما والقيادة المدنية الأميركية، تلتقي موسكو وهيئة الأركان المشتركة ووكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية على نقطة واحدة: لا «معارضة معتدلة» في سورية. كلّهم إرهابيون يشكلون ما يشكلونه من تهديد على المحيط السوري وأميركا وروسيا وأوروبا وأبعد من ذلك.
جاءت الضربات الجوّية الروسية في سورية لتغيّر المشهد على الأرض لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. جاءت أيضاً لتحرج البيت الأبيض الذي لم يسفر تحالفه لضرب «داعش» عن شيء يذكر. ولكن ما من شيء يغيّر رأي أوباما، ولا حتى دعوة الرئيس الفرنسي هولاند له بالتحالف مع الاتحاد الأوروبي وإعلان الحرب على «داعش». وما زال أوباما يصرّ على نقاطه الأربع: على الأسد الرحيل، ولا إمكانية للتحالف مع روسيا لضرب «داعش»، وأن هناك «معتدلين» يمكن لأميركا أن تدعمهم في سورية، وأن تركيا، التي خاطب رئيسها أردوغان بالقول «نحن نعرف ما الذي تفعلونه للأصوليين في سورية»، حليف مخلص للولايات المتحدة. يقول المستشار السابق للكاتب الأميركي هيرش، إن تركيا هي المشكلة.
يتحدّث هيرش أيضاً إلى السفير السوري في بكين، عماد مصطفى. تهديد «داعش» ليس بعيداً عن الصين حليفة سورية، والتي قيل إنها رصدت مبلغ 30 مليار دولار لإعادة إعمارها بعد الحرب. يقول مصطفى إن إقليم شينغيانغ في أقصى الغرب الصيني تحدّه باكستان وأفغانستان والهند وطاجاكستان وقرغيزستان وكازاخستان ومنغوليا وروسيا، وهذا في نظر الصينيين يخدم كبؤرة للإرهاب حول العالم وفي داخل الصين. المقاتلون الإيغور، يكمل مصطفى، يريدون إقامة دولة لهم في شينغيانغ، والمقاتلون منهم في سورية ينضوون تحت لواء «الحركة الإسلامية» في شرق تركستان، وتركيا تسهّل لهم دخولهم إلى سورية. يقول السفير مصطفى إن الصين ترى أن الدور التركي في دعم المقاتلين الإيغور في سورية قد يتوسع في المستقبل لخدمة الأجندة التركية في شينغيانغ. دمشق تقدّم أيضاً المعلومات الاستخبارية عن هؤلاء لبكين وعن الطرق التي سلكوها للوصول إلى سورية، بحسب مصطفى.
تهديد المجموعات المتطرّفة التي دقت أبواب الولايات المتحدة وقبلها أوروبا لم تستدعِ تحرّكاً من أوباما. أما الصين، فقد تعاونت في هذا الإطار مع الهند، وأجرتا تدريبات مشتركة على مكافحة الإرهاب، علماً أن كلا البلدين كان عدوّاً للآخر إبّان الحرب الباردة ويكرهان بعضهما أكثر ممّا تكره الولايات المتحدة الصين وبالعكس. فالمقاتلون الإيغور يراكمون الخبرات القتالية في سورية ويتلقون التدريبات على تقنيات البقاء التي تمكّنهم من العودة في رحلات سرّية إلى البرّ الصيني، تقول كريستينا لين الخبيرة في الشأن الصيني والتي خدمت في البنتاغون قبل عشر سنوات تحت قيادة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
«إذا سقط الأسد، سيعود المقاتلون الشيشان والصينيون والكشميريون إلى بلدانهم لمتابعة الجهاد مدعومين من القاعدة السورية الجديدة في قلب الشرق الأوسط»، تقول لين في إحدى مقالاتها قبل ثلاثة أشهر.
الكل يرن وأوباما لا يريد أن يرى. المسعى العسكري الأميركي حيال الأسد اختفى مع تقاعد الجنرال الأميركي مارتن ديمبسي الذي خلفه على رئاسة هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزف دانفورد صاحب مقولة «إن روسيا تهدّد الوجود الأميركي». يقول سيمور هيرش إنه أصبح لدى أوباما «بنتاغون» أكثر إذعاناً له، ولن تكون هنك محوّلات غير مباشرة من المستوى العسكري ضدّ سياسته حيال الأسد ودعمه لأردوغان. لمذا لم يستمع إلى الرسالة؟