مؤشّرات سبعة على بدء تفكّك لبنان!

د. وفيق ابراهيم

تتزاحمُ المؤشرات على دنوّ لبنان من مرحلة السقوط الكامل للمرة الأولى منذ تأسيسه قبل 66 عاماً.

فهناك تضافرٌ لعوامل إقليمية وداخلية واقتصادية تهزُّ استقراره إلى حدود التصدّع وكيانه السياسي إلى مرحلة الانفجار، فيبدو مثل ورقة في مهبّ ريح هوجاء تدفعها جملة مؤشّرات، خطورتها في هجومها المتزامن.

كان ما يُسمى بـ«الإبداع اللبناني» يستعين تارة بالإقليمي على «الداخلي» أو «الدولي» على «الإقليمي». ومرات نادرة لجأ إلى الداخل لمعالجة شبقٍ إقليمي أو دولي.

الأمر اليوم مختلفٌ ـ الإقليم يأتي إلينا جواً وبراً بإرهابييه. والوحدة الداخلية مهزوزة. أما الاقتصاد فمفلسٌ يعتاش على الاستدانة ـ وهناك حكومة ذات وظيفةٌ واحدةٌٌ: تستعين بالأجهزة الأمنية والاستخبارات لدرء خطر الإرهاب، وهي حكومة إتفاقٍ بالحدّ الأدنى بين السعودية وإيران عبر الوسيط الفرنسي وبرعاية أميركية وموافقة سورية كامنة… وإلاّ فما كان في الإمكان أن يجتمع النار والماء في قنينة واحدة.

أوّل المؤشرات عودة الإرهاب التكفيري الإسلاموي إلى لبنان، واستيطانه بعض أنحاء المخيمات الفلسطينية وضفافها اللبنانية، وشمال البلاد وشرقها، على نحو أدّى إلى خلل إضافي في التضامن الاجتماعي. وتأمل القوى السياسية التي تنفي وجود الإرهاب في أن يأكل هذا الإرهاب خصومها. لذلك يتعامى البعض عن أسلحة وذخائر وإرهابيين يكمنون في بعض أحياء بيروت وأزقتها وسط تجاهل تيارات حكومية أساسية. وتؤكد المعلومات أنّ عملاً عسكرياً يتمّ التحضير له بخلفية تفجير حرب مذهبية وربما طائفية، وبعض البيئات الفلسطينية تموج بالإرهابيين المبايعين لـ«داعش». وترقب ساعة الصفر…

ماذا بعد؟ بلى، الإرهاب موجود في لبنان، وعلى بعض النواب في شمال لبنان أن يتوقفوا عن تغطيتهم وإلاّ سيصل الدور إليهم. وعلى «القوات اللبنانية» ألاّ تتعامل مع هذه الأخطار بعقلية النكاية مع منافسها العماد ميشال عون، فالوضع دراماتيكي ولن ينتظر التهريج ومحاولات الابتزاز والاستثمار.

المؤشر الثاني يتعلق بملف النازحين السوريين، وهو ثقل اجتماعي وأمني لناحية العدد والكلفة والتغطية الأمنية، وزاد العديد على مليون ونصف مليون نسمة يحلّون أهلاً لدى أنسبائهم في لبنان. لكن أسواق البلد تعجز عن تأمين أعمال لهم. والدولة لا تستطيع مساعدتهم، ما يشكّل بيئة صالحة للإجرام والإرهاب «المأجور» الذي يدفع أموالاً كثيرة لتنظيم بعض النازحين في صفوفه للقتال في كلّ مكان.

أما المؤشر الثالث فهو الانقسام السياسي اللبناني الذي يذكرنا بخلاف أهل بيزنطية حول جنس الملائكة، بينما كان محمد الفاتح يدكُّ أسوار عاصمتهم ويبيد دولتهم.

هذه الأخطار كلّها لم توقف الخلافات في لبنان. فترى سياسياً لبنان يطلق إرشادات في الوطنية ورفيع الأخلاق، ويرتحل بعد ساعة بحثاً عن «رزقه» في باريس والرياض وأمكنة أخرى. بينما نستمع إلى سياسي آخر يفتح شدقيه بحكميات من وزن أنّ ما يحدث في المنطقة «ثورة ضدّ المالكي» يقودها رجال «العشائر من ذوي الحداثة والرقيّ»، ويا للأسف فإنّ من قال هذا الكلام هو مدير عمليات رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي.

فيما يضيف سياسي من أبطال الحروب الطائفية أنّ «الربيع العربي» هو ثمرة «ربيع لبنان» وعبقرية «14 آذار» المستلهمة بدورها الحداثة من السعودية وقطر وتركيا و«إسرائيل».

أما المؤشر الرابع فيرتبط بالتدمير الممنهج لأهم وسيلتين أنتجتا الطبقة الوسطى في لبنان وهما الجامعة الوطنية والمدرسة الرسمية اللتان فتحتا أبوابهما لأبناء الفقراء مجاناً، ونقلتا العلم إلى جماهير واسعة استطاعت بفضلهما تحقيق ارتقاء اجتماعي، ويتمّ التدمير بوقف تمويلهما وتجويع الأساتذة فيهما وعدم إحداث تطوير في برامجهما وزيادة حجم التدخلات السياسية في التوظيف فيهما.

إنّ وضع شرط واحد لتعيين أستاذ جامعي، وهو ضرورة أن يكون أتمّ في الخدمة الفعلية عشرين عاماً على الأقلّ مع تعليم تجريبي لعامين اثنين، يردّ للأكاديميا اللبنانية إشراقتها القديمة ويطرد السياسة لا الوطنية من الجامعة. وينطبق الأمر على المدرسة الرسمية المؤدية إلى الجامعة، وتدميرها يؤدي حكماً إلى تدمير وسائل التعليم الأخرى وإلغاء الطبقة الوسطى الضامنة للاستقرار والمروّجة للثقافة الوطنية.

هذه هي إنجازات الليبرالية الاقتصادية المتفلّتة التي ترى أنّ الأغنياء هم الذين يجب أن يتعلموا فحسب، أما الفقراء فهم الكادحون، وخدم المؤسسات وعمال المصانع.

خامس المؤشرات هو الإنفاق العام الذي وصل إلى حائط مسدود. لا إنتاج في البلاد ـ السياحة مشلولة ـ ومعها سائر أنواع الخدمات، والديون فاقت السبعين مليار دولار، والفساد السياسي مستمرٌ… نستدين ونسرق. فإلى متى؟ إنّ ما يمنع الثورة الاجتماعية هو لجوء الطبقة السياسية إلى تضخيم الصراع المذهبي والطائفي، وهي صفةٌ انتقلت إلى مجمل دول الإقليم.

يعبّر المؤشر السادس عن تراجع مجمل أنواع الخدمات العامة إلى الدرجة الدنيا: الكهرباء، المياه، الأمن، الطرقات، الغلاء… أمور تجعل مشهد الانهيار متكاملاً من دون أن يشعر السياسيون بما يتشكل ضدّهم. أيُعقل أنّ يدعو نائب من حزب «المستقبل» المقرّب من السعودية اللبنانيين إلى الاستحمام مرة واحدة في الشهر لسدّ نقص المياه؟ وقد يدعو إلى الصيام طوال السنة لمكافحة الغلاء؟

المؤشّر السابع، ولكي تكتمل عناصر الدراما اللبنانية، أطلق المجلس النيابي قانوناً جديداً للإيجارات يرمي نحو مئتي ألف لبناني خارج منازل كانوا استأجروها قبل خمسين عاماً مقابل تعويضات زهيدة لا تسمح لهم بتأمين بديل.

إنه عصر الليبرالية الاقتصادية المتفلّتة التي لا تؤمن بحق الفقير في طعام جيد ومسكن لائق، فيما تسطو على الأملاك العامة والخاصة والشواطئ البحرية والمال العام وتخدم القوى الإقليمية برموش عينيها مقابل حفنة من الدولارات.

هكذا تجتمع الشروط السبعة للانهيار في اتحاد قوي متزامن يخلخل مداميك الكيان السياسي مقابل نظام سياسي قنوع، عابث ولاهٍ، يعتقد أن «الإقليمي والدولي» لن يسمحا بانهيار لبنان وقد ينجدانه قريباً. وهذه مجرّد إرهاصات لأنّ للدول في الشرق الأوسط وظائف في خدمة الخارج، لذلك علينا أن نسأل هل لا يزال الإقليم في حاجة إلى لبنان؟ وما هي فائدته لأميركا؟ و»إسرائيل»؟

المؤسف أنّ مَن يجب أن يسأل هي القوى السياسية اللبنانية التي عليها أن تعمل بإخلاص وإلاّ لن يفيد الندم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى