بعد الملف النووي… ملف آخر بانتظار إيران!
د. عدنان منصور
يعتقد الكثيرون من باب الأمل والتفاؤل أو التمنّي واليقين، أنّ الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة 5+1، سيطوي نهائياً صفحة سوداء في العلاقات الأميركية الإيرانية، امتدّت منذ قيام الثورة العام 1979، وحتى اليوم.
ممّا لا شكّ فيه أنّ البرنامج النووي الإيراني شكّل للحلف الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي» تحدّياً علمياً وسياسياً ومعنوياً وسيادياً، لا يريده الحلف لدولة ارتضت لنفسها سلوكاً مغايراً ورافضاً للسلوك العنجهي الذي مارسه الغرب في تعاطيه مع إيران خلال القرنين الماضيين، لا سيّما في فترة القاجار والحكم البهلوي، حيث كان الغرب بريطانيا وفرنسا وروسيا وفي ما بعد الولايات المتحدة الأميركية، يمارس سلطته وسياسته فيها بعنجهية واستغلال عبر حكّام عملاء ما كانوا إلّا دُمى في يده، كناصر الدين شاه، ومظفر شاه، ومحمد رضا بهلوي. فقوى الهيمنة والنفوذ الغربية لم تتقبّل يوماً وجود رجال وطنيّين في إيران يقفون في وجهها واستغلالها ونهبها لخيرات بلدهم أمثال أمير كبير ومحمد مصدق وروح الله الخميني. لذلك عمدت بريطانيا إلى الإطاحة بأمير كبير وقتله بمؤامرة دُبّرت له، وهكذا فعلت واشنطن عبر CIA مع محمد مصدق بتدبير الانقلاب الشهير ضدّه ومحاكمته في ما بعد ووضعه في الإقامة الجبرية، وإعادة الشاه من الخارج الذي رضخ للإدارة الأميركية، وكان لها الأداة الطيّعة في بسط نفوذها في إيران، وجعلها مركزاً رئيساً وأحد أعمدة الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط.
الشعب الإيراني ومنذ أن فجّر ثورته الإمام الخميني العام 1979، كان يُدرك جيداً ما يريده من قوى التسلّط، وما تريده بدورها هذه القوى منه، وهو الذي عانى الأمرّين خلال القرنين الماضيين، من نهب منظّم وسرقة موصوفة، واستغلال بشع لخيرات إيران، وإجراءات تعسّفية قبيحة طالت كرامة الإيرانيين، جرّاء قوانين عنصرية اعتمدتها قوى التسلط بحق الشعب الإيراني لتصل هذه القوانين إلى ذروتها في عهد الشاه محمد رضا بهلوي.
مع ثورة الخميني، أدرك الغرب سريعاً أنه أمام ظاهرة جديدة في إيران يصعب عليه قبولها أو تجاهلها، نظراً إلى وضوح أهداف الثورة وتطلّعاتها وسياساتها ومبادئها الثابتة في وجه قوى الهيمنة والاستغلال. فكيف يمكن لواشنطن أن تغفل عن إيران وثورتها، وتغضّ الطرف عنها وهي التي وضعت حدّاً للنفوذ الأميركي الأوروبي الثقيل في إيران، وشكّلت تحدّياً وخطراً رئيساً مباشراً على مصالحه ومصالح حلفائه في المنطقة، لا سيّما لدولة العدوان «الإسرائيلية»، وكانت داعماً قوياً لقوى التحرّر والمقاومة في فلسطين ولبنان وسورية وغيرها؟!
كيف يمكن لواشنطن أن تتقبّل في منطقة كالشرق الأوسط، تسبح على محيط من النفط والغاز، دولة كإيران، قرّرت لنفسها الخروج من دائرة الاستغلال والتبعية والنفوذ لتكون عبرة ودرساً للآخرين، ونموذجاً يُحتذى لدى شعوب ودول المنطقة التي تجثم على أرضها القواعد العسكرية، وتعبر مياهها الأساطيل الحربية، وتتحكّم بسياساتها وثرواتها إملاءات وقرارات تُصاغ في الخارج وتُنفّذ في الداخل؟
الحلف الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي» لا يريد حكاماً وطنيّين حقيقيّين، مستقلين سياديّين في منطقتنا وفي عالمنا العربي. إنّما يريد حكاماً صوريّين تابعين، لا حول ولا قوة لهم، ينفّذون ما يُطلب إليهم، ويلتزمون بما يؤمَرون به، ينعمون برعايته وحمايته ورضاه. هذا ما يريده فعلاً الحلف الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي» من إيران، وهو ألا تغرّد خارج سلطة نفوذه وبعيداً عن سرب عملائه ومَن يدور في فلك سياساته. لذلك نقول إنّ الاتفاق النووي الإيراني ليس نهاية المطاف في العلاقات الإيرانية ـ الغربية. فالحلف الغربي ومعه المتواطئون والمروّجون للتطبيع والتعاون مع تل أبيب، لن يرضى أن تستمرّ إيران في نهجها وسياساتها المستقلة التي تظلّ تشكّل تهديداً استراتيجياً مباشراً لمصالحه ومصالح أصدقائه. لذلك ترى واشنطن في العقوبات الاقتصادية والمالية وغيرها من الوسائل، الأسلوب الناجع في حمل طهران على الركوع والإذعان لمشيئة الغرب.
صحيح أنّ الاتفاق النووي يضمن رفع العقوبات الدولية عن إيران، إلّا أنّ واشنطن ستجد الذرائع الواهية العديدة، والحجج العقيمة مستقبلاً لفرض عقوبات دولية أو أحادية الجانب، بأشكال مختلفة من أجل كبح جماح تقدّم إيران وتطوّرها وتنميتها ونهضتها الاقتصادية والصناعية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية. فإبقاء إيران في دائرة العقوبات بنظر واشنطن سيجعلها في النهاية ترضخ لمشيئتها مهما طال الزمن. لذلك، ليس غريباً أن نجد واشنطن اليوم، وبعد توقيع الاتفاق النووي، وقبل رفع العقوبات الدولية المتوقع، تلوّح بعقوبات جديدة، بحجة تطوير إيران لصواريخ باليستية.
إيران، وإنْ عانت كثيراً من العقوبات وتأثيراتها السلبية على الإنتاج القومي وعملتها، وعلى الاقتصاد والتجارة وغيرها، إلّا أنّ هذه المعاناة كان يتحمّلها الشعب الإيراني بوعي وحسّ وطني لافت، فاق التوقعات كلّها، وهو الذي خبر جيداً سياسات قوى الهيمنة الغربية ماضياً وحاضراً، وعرف مسبقاً ما الذي يريده الغرب فعلاً من بلده، فكان صبره الطويل يعبّر عن كرامته وعنفوانه وقيمه، وإصراره على رفض العقوبات بإرادة أكثر صلابة وتمسّكاً. ومن اختلط بالشعب الإيراني، حكاماً وأفراداً، يعرف عن قرب وعن كثب معدن هذا الشعب العنيد الذي يقبل التحدّي بكلّ ما أوتي من قوة، خاصة إذا ما جاء هذا التحدّي مِمَّن لا يريد له الحياة والاستقلال والقرار الحرّ.
فاتَ الأوان على ترويض الأسد الإيراني، وعلى الغرب واشنطن بالذات أن يسلّم بهذه الحقيقة، فتلويح واشنطن بالعقوبات ردّاً على برنامج إيران للصواريخ الباليستية، لن يثني طهران عن السير والمضيّ في سياساتها الوطنية المستقلة مهما كان الثمن باهظاً، ولا عن مواجهة أيّ قرار عدائي أو تدخّل خارجي يهدف إلى منع إيران من تعزيز قدراتها الدفاعية. لذلك جاء ردّ الفعل الإيراني على تلويح واشنطن بالعقوبات سريعاً على لسان المسؤولين الإيرانيّين، إذ أوعز الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى وزير الدفاع حسين دهقان بمواصلة برنامج إنتاج أنواع الصواريخ اللازمة للقوات المسلحة بسرعة وجدية أكبر وفي إطار سياسات إيران الدفاعية. وفي مجال الردّ أيضاً، وجّه أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي القائد السابق لقوات الحرس الثوري، رسالة إلى رئيس الجمهورية، يُعرب فيها عن أمله بأن يبلغ مدى الصواريخ الإيرانية أكثر من 5000 كلم. وقد رافق هذه الرسالة إعلان كبير المفاوضين النوويّين الإيرانيّين عباس عرقجي، من أنّ قدرات إيران الصاروخية غير قابلة للمساومة والتفاوض.
ملف الصواريخ الإيرانية، هو الملف المنتظر الذي سيفتحه مستقبلاً الحلف الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي»، مدفوعاً ومدعوماً بدون حدود من بعض العرب عبر جامعتهم، حيث سيروّج للملف بكلّ قوة، ويهوّل للعالم بخطر البرنامج الصاروخي وتهديده للسلم والاستقرار والأمن في المنطقة والعالم. ملف الصواريخ سيفتح مجدّداً شهية الحلف لفرض المزيد من العقوبات التعسّفية بحق إيران من أجل شلّ قدراتها المتنامية، ولجم تطوّرها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والبنيوي.
الدوافع الأميركية الأوروبية «الإسرائيلية» كثيرة… فجعبة واشنطن مليئة بالحجج والذرائع الواهية والقرارات التعسّفية الظالمة بحق إيران، التي ستظلّ في دائرة الاستهداف الأميركي، لأنّ موقف إيران وحذرها الشديد من الولايات المتحدة لم يتغيّرا، ولأنّ سلوك الحلف الغربي، والإصرار على الإطاحة بالجمهورية الإسلامية وتقويض نظامها بأيّ ثمن لم يتغيّرا، وهما مستمرّان بالوسائل كلّها.
الإيرانيون الذين أثبتوا للعالم كلّه أثناء تعاطيهم مع ملفهم النووي، أنهم على مستوى المواجهة والحصار والعقوبات والمفاوضات، من دون التخلي عن حقوقهم المشروعة، وأن يخرجوا من الملف بانتزاع حقهم في امتلاك التكنولوجيا النووية والسير في برنامجهم السلمي، ويحافظوا على استقلالية القرار الإيراني السياسي والاقتصادي والعسكري، بمقدورهم غداً أن يثبتوا مرة أخرى أنهم على قدر كبير من المسؤولية الوطنية التي تجعلهم يواجهون أيّ عقوبات لاحقة تفرضها واشنطن، وإنْ كانت باهظة الثمن.
المواجهة بين الغرب وحلفائه، وإيران، ستظلّ مستمرة… طالما أنّه لم يقتنع بعد بأنّ بيت الطاعة الغربي المتمثّل بالولايات المتحدة، لا يسري على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإنْ كان هناك من دول روّضتها واشنطن، وارتضى حكامها الترويض ذلّاً وخنوعاً الدخول إليه والاحتماء به والدوران في فلكه.
قدر الثورة في إيران، أن تظلّ متوثّبة في مواجهة سياسات دول الهيمنة والاستبداد والاستغلال، وإنْ غُلّفت هذه السياسات نفاقاً بشعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
وزير سابق