«النصّ الأقصوصي وقضايا التأويل» في ميزان النقد الحديث لدى التونسي البشير الوسلاتي
أصدر الباحث التونسي البشير الوسلاتي، الأستاذ المحاضر في كلية الآداب في القيروان، كتاباً جديداً عنوانه «النصّ الأقصوصي وقضايا التّأويل» لدى دار «صامد للنشر» ويضمّ الكتاب فصولاً خمسة، تسعى إلى استقراء ضرب من السرد المقتضب، وتُعنى جميعها بمسألة شاملة تندرج في سياق عام هو السياق التأويلي المعنيّ بتفكيك النصوص، ولا يفتأ يتجدّد من قارئ إلى سواه، ما يجعل النصّ متّسما بالانفتاح الدائم.
تكمن الإشكاليّة الأساسيّة التي حرص الباحث على استجلائها في تدبّر هذا النوع من السرد الوجيز وتأويله في النظر إليه من زاويتين كبريين تتراوحان بين النظريّة والإجراء المنهجيّ التحليليّ. ففي الفصل الأوّل تحت عنوان «مظاهر التمايز بين مقاربة النصّ الأقصوصيّ والنصّ الروائيّ» ينطلق الباحث من مقارنة عامّة بين الأقصوصة والرواية غايتها الوقوف على ما تتميّز به مقاربة النصّ الأقصوصيّ عن نظيره الروائيّ، سواء لناحية المصطلحات النقديّة المستعملة أو المنهج المعتمد. وموجب هذا التميّز معزوّ عامة إلى كون الأقصوصة جنسا أدبيّاً مستـقلاً بذاته يضمّ مقوّماته الفنيّة المخصوصة والمتعلّقة به.
أمّا في الفصل الثاني وعنوانه «في الخطاب الأقصوصيّ المقارن بين غي دو موباسّان ويوسف إدريس»، فيحاول الباحث إبراز الخصائص الفنيّة الأقصوصيّة الكونيّة التي يلجأ إليها كتّابها رغم التباعد الجغرافيّ واختلاف الانتماء إلى الآداب واللغات والحضارات. ويدعم هذا الفصل تميّز هذا النوع من السرد عن الأنواع السرديّة الأخرى، كاشفاً طرائق توظيف هذه الخصائص وبثّها داخل النصّ.
نسق من التدرّج من العامّ إلى الخاصّ، يسم الفصل الثالث وعنوانه «التكثيف خاصيّة أقصوصيّة»، إذ يمعن البشير الوسلاتي النظر في هذه الظاهرة الفنيّة التي أثبت معظم النقّاد مكانتها الأدبيّة ودورها الجليّ في تشكيل أبعاد النصّ الجماليّة. معتبراً، على هذا الأساس، التكثيف خاصيّة جديرة بالدرس من شأنها أن تعمّق زاوية محدّدة من زوايا تدبّر النصّ الأقصوصيّ.
ورغم أنّ الفصلين الأخيرين منخرطان في صميم المقاربة الإجرائيّة، فإنّهما مقيّدان بصرامة المنهج، ذلك أنّ تناول الباحث أقصوصة البشير خريّف «النقرة مسدودة» من مجموعته «مشموم الفل» رهن زوايا نظر ثلاث استقاها من تعريف الأقصوصة النظريّ في مهده الغربيّ، وتتمثّل هذه الزوايا المخصوصة في الحجم أو نظام التوسّع، ومحاكاة الواقع أو الإيهام المرجعيّ وحياد الراوي. أمّا أقصوصة علي الدوعاجي «سهرت منه الليالي..» فتحليلها يخضع بدوره لمقتضيات الجنس الأدبيّ وجهازه النظريّ ومنظومته المعجميّة، وهو مسلك يرتدّ بالباحث إلى التصوّر الأجناسيّ العامّ الذي افتتح به هذا المؤلَّف.
أمكن للوسلاتي في مختلف مراحل البحث على امتداد الفصول السابقة أن يقف على مجموعة كبيرة من المقوّمات الفنيّة التي يرتكز عليها النصّ الأقصوصيّ، ولمس هذا المعطى الأجناسيّ المهمّ سواء في النظريّة أو في التطبيق. وإذا كان مثلما قيل «بضدّها تتميّز الأشياء» فإنّ مسلك المقارنة والمقايسة المنتهج في الفصلين الأوّلين أساساً يعدّ من السبل المتاحة أيضاً لتدبّر النصّ الأقصوصيّ ووضعه في الميزان النقديّ وتجلية مواصفاته وأسسه الجماليّة المشكّلة لنسيجه الداخليّ، وهي أسس خوّلته أن يستقلّ بذاته جنساً أدبيّاً خاصاً خاضعاً لمنطق التطوّر والتجريب وحركة الإنشاء المتحوّلة والمتحاورة مع مختلف الأنماط الخطابيّة الأخرى. وإنّ ما استند إليه الباحث من عيّنات أقصوصيّة محليّة وعالميّة أتاح له مساءلة النصّ عن كثب واستقراء تركيبه الخاصّ ودقائقه البنائيّة المجسّدة هذا الضرب من الكتابة الوجيزة المتمنّعة.
النتائج التي رصدها الوسلاتي تؤكّد عنت هذا النوع من القصّ وصعوبة تأتّيه، مثلما تثبت أيضاً وجوب اعتماد جهاز نظريّ تأويليّ مستمدّ من خصائص النصّ الأقصوصيّ وفنيّاته المختلفة عن فنيّات الرواية والمسرحيّة والقصيدة وغيرها. وتأكّدت للباحث هذه النتيجة ذات البعد المنهجيّ والقائمة على التوسّل بمفردات معجميّة مستقاة من سجلّ الأقصوصة النظريّ مثل البداية السريعة غير المتراخية، والنهاية المفاجئة المباغتة، ووحدة الانطباع والأثر، والإيحاء، والتكثيف، والاقتصاد، والاقتضاب، والتركيز، والوصف البرقيّ الموظّف، وغير ذلك ممّا يكوّن منظومة منهجيّة قرائيّة خاصّة بهذا الضرب من السرد الوجيز.
ما طمح إليه الوسلاتي لا يخرج على نطاق الاشتراك في إنتاج جزء معرفيّ يتعلّق بالنصّ الأقصوصيّ، لا سيما أنّ عمله تضمّن التفاتة إلى ثلاثة نماذج من القصّ التونسيّ، وبلغت من الجودة الفنيّة والمكانة الأدبيّة ما يخوّلها الانعتاق من بوتقة المحليّ لتلامس الانتشار الكونيّ وذيوع الصيت، على غرار ما لقيه أدب يوسف إدريس. والحافز على هذا المطمح كامن في مفهوم التأويل ذاته، وسبقت الإشارة إليه حينما ذكر الباحث أنّه لا يخرج عن مجال الإسهام والمشاركة في الرصيد المعرفي الذي ينتجه كلّ قارئ.