حبرٌ كثيرٌ لمسار طويل…!
علي قاسم
رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية
سيُسال الكثير من الحبر وحتى أجل غير مسمّى حول رفع الحصار عن إيران وتطبيق الاتفاق النووي، وربما بما يعادل كلّ ما سبق الذي سال في الماضي، حيث التداعيات ليست حكراً على منعطف سياسي يصل حدود الانقلاب في الاتجاه والمقاربة، بل تشمل مجموعة من الخطوات المتلاحقة والمتصلة فيما بينها في سياق حدث كان ما قبله وسيكون الكثير لما بعده.
فالمسألة لم تعد في حدود العلاقة التي تدشّن حقبة من العلاقات الدولية المتأرجحة صعوداً وهبوطاً، وليست محصورة في نطاق جغرافي تصحّ فيه لغة التصعيد أو التهدئة وفق المناخ الدولي، وإنما في محاور مختلفة تشكل تماساً مباشراً بما سيجري على خلفية التبعات الناتجة، والتي بدأت تباشيرها الأولى بمحاولة أميركية لاستبدال عقوباتها ولن تكون الوحيدة لتقليم التداعيات، وبالتالي الحدّ من المبالغات السائدة.
لا نعتقد أنّ لدى إيران أوهاماً حول حدود ومساحة الانقلاب في المشهد، حيث لا تعويل ولا رهان على معطيات افتراضية، بقدر ما تتعاطى مع الموضوع بلغة الواقع مستذكرة الكثير والكثير مما جرى في الماضي، وما قد يجري لاحقاً، في سياق العقبات والعراقيل والكمّ الهائل من المتضرّرين الذين لن يتردّدوا في زرع المزيد من الألغام وأحياناً التفخيخ هنا أو هناك والغوص في تبعات المواجهة، التي ستزيد من وتيرة الحماس في استهداف الاتفاق من جهة والعمل على تأجيج حالة المواجهة بين الغرب وإيران من جهة ثانية.
محاولة إضفاء البعد الإقليمي على المواجهة لم يكن مجدياً ولا مقنعاً في الماضي، وصيغ الإملاء المقبلة من خلف الأقنعة لم تعد قادرة على جرّ إيران إلى الموقع الذي تريده أميركا ومن خلفها، وربما قبلها «السعودية وإسرائيل»، حيث الثالوث المحرك لكلّ الهواجس المفتعلة كان ولا يزال خطراً يهدّد أيّ اتفاق، وبالتالي نقطة استهداف واضحة لأيّ خطوة باتجاه تحقيق الاستقرار الإقليمي وتالياً العالمي.
بهذا المنظور يبدو من البداهة بمكان أن تستجرّ التطورات كلّ هذا العصف السياسي والذهني الإقليمي، من أجل توليد عوامل تأجيج إضافية تؤخر أو تؤجّل ما حُسِم حتى اللحظة، حيث الإدراك بأنّ البُعد العالمي للمواجهة قد انكفأ… وأنّ المشكلات التي كان يُراد لها أن تكون بصبغة دولية قد خرجت من التداول، وكان لا بدّ من إعادة تدوير الزوايا بما يواكب هذا التحوّل، فجاء الاستنفار الواضح لكلّ أدوات وأوراق الصراع مع نزوع أكثر وضوحاً نحو تفجير المواجهة بعوامل طائفية أو مذهبية، بحكم ما تنطوي عليه من مساحة اشتعال هي الأوسع وهشيم قابل للاحتراق، بحيث تعيد ترتيب الأولويات وفق أجندة الصراع المفتوحة على المجهول.
ما هو محسوم أنّ هذه المقاربات لا تغيب عن التوجه المباشر لكثير من السياسات الإقليمية وتحديداً السعودية، فيما بقيت وستبقى في صلب الاتجاه «الإسرائيلي» الذي كسب جولة الضغط على البيت الأبيض بجائزة ترضية عبر تفعيل العقوبات ضدّ البرنامج البالستي، كما سمّي، كنوع من التعويض المؤقت وإن كان أقلّ فعالية، ويشكل عامل استرضاء للوبي الضغط في الداخل الأميركي، بحيث تسحب الإدارة الأميركية الأوراق من الإسرائيليين ومن معارضي الاتفاق في الكونغرس، وإن كان من الناحية الفعلية يُبقي على خط المواجهة مع إيران، ويمنع التطبيع الكامل معها، وهو تطبيع غير ناضج ولا يبدو مؤهلاً للنضوج تحت أي ظرف أو مكان أو زمان.
الاسترضاء الأميركي لـ«إسرائيل» ليس ذاته لـ«السعودية» التي يبدو أنّ القرار الأميركي قد حُسم باتجاه أن تنزع ما زرعته من أشواك بيدها ومنفردة ومن دون أيّ تردّد، بعد لغة من الانتقادات الحادّة وموجة من فتح الملفات التي تحكم السياسة السعودية عبر الصحافة الأميركية كقصف تمهيدي لخطوة أميركية تزيد من الأشواك المزروعة في الكفّ السعودية، وهو ما يتقاطع مع المرافعة المتأخرة للرئيس أوباما حول بدء تنفيذ الاتفاق النووي، عندما تحدث بوضوح عن تواضع حجج المعارضين من جهة.. وافتقاد البدائل لديهم بما فيها «إسرائيل» من جهة ثانية.
الترويض الإيراني للمشهد الدولي في حبكة دبلوماسية محكمة ومتقنة يتسابق مع التصعيد السعودي على أكثر من جبهة، بما فيه التعويل على التنسيق مع «إسرائيل» والتلويح بورقة التحالف مع تركيا ليكون الثالوث الإقليمي بديلاً للانزياح الأميركي، لكنه يسجل نقاطاً واضحة لسياقات مختلفة تستدعي النظر أبعد مما يطفو على السطح، حيث التوافق الدولي والانفتاح يعنيان موقفاً أقل عدائية تجاه إيران.. على الأقل من ناحية الشكل، وأن ما بقي مضمراً هو ذاته لم يتبدل.. ومحاولة فرض الهيمنة الغربية لن تتعدَّل.
إيران تعرف ذلك وتضعه في الحسبان، وتدرك بالضرورة أن تغلُّب الدبلوماسية ونجاحها في الفكاك من فخ الحصار لا يعنيان نهاية المواجهة، وما أظهرته واشنطن ليس سوى عيّنة ستُصرف في مسار طويل من تحريض خفي لثالوث التصعيد الإقليمي من السعودي إلى الإسرائيلي مروراً بالتركي، ليكون بديلاً عن التشفي الغربي، أو سياقاً قائماً على الازدواجية في التعاطي، حيث المصالح الاقتصادية التي يلهث وراءها الغرب خط أحمر لن يتراجع عنه، وتأجيج الموقف بأدواته الإقليمية دفعاً أو تغاضياً سيبقى خياراً قائماً لن يحيد عنه.
تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية