مختصر مفيد السعودية بعد تركيا: حُصْرم رأيته في حلب!
يستطيع أيّ مراقب للوضع الإقليمي أن يدرك حجم التراجع الذي أصاب الدور التركي. كما يستطيع، انطلاقاً من كون المناورة التركية في العراق ضئيلة الفعل، لأنّ مداها وهامشها أقل من صناعة الحدث، أن يرى أنّ مقياس التقدّم والتراجع في الحضور التركي بعد سقوط حكومات الأخوان المسلمين التي صعدت في بدايات «الربيع العربي»، صار ما يحدث في سورية وحدها.
تتابعت الأحداث العسكرية والدبلوماسية منذ إسقاط تركيا الطائرة الروسية، لتقول إنّ الدور السياسي لتركيا اختبأ وراء السعودية عبر «مؤتمر الرياض لقوى المعارضة»، وتلاشت المقاربة التركية الخاصة بإقامة المنطقة العازلة أو الآمنة، ومعادلة مقايضتها بطوفان اللاجئين إلى أوروبا. وميدانياً، لا يحتاج المراقب لأن ينتظر نهاية إقفال المساحة التي عبثت عبرها تركيا بالجغرافيا السورية عبر الحدود، ليتحقق من أن الأمور تسير بهذا الاتجاه وتتدحرج نحو النهاية بتسارع يفوق التوقعات من ريف اللاذقية إلى جبلَي التركمان والأكراد، وصولاً إلى ريفَي حلب الشرقي الشمالي والغربي الشمالي.
وصول أمير قطر إلى موسكو وما عبّر عنه وزير خارجيته من رهان على دور روسيا في الحل السياسي في سورية، ومن تطبيع للعلاقات الروسية التركية، ومن تمسك بعلاقات طيبة مع إيران، إشارات تمهيدية للتموضع التركي لا تملك الدوحة قدرة حمايتها من الغضب السعودي، من دون أن تكون تركية المنشأ أميركية التغطية.
بقيت السعودية وحدها تحمل راية الإنكار في قراءة المتغيّرات ومقاربتها. وها هي تغرق في حرب اليمن بلا أفق، ويسأم منها الحلفاء والخصوم ويتركونها حتى تصرخ طلباً للإنقاذ. وها هي بعد تصعيد هيستيريّ في العلاقة مع إيران ووهم قيادة الخليج ثم العرب ثم العالم الإسلامي لقطع العلاقات معها، تحصد الخيبة وبعض وساطات، أهمها من الحليفين الإسلاميين الأهمّ: تركيا وباكستان، فلا يبقى للسعودية إلا سورية ولبنان. ففي لبنان تتموضع على خطّ التلاعب بالاستحقاق الرئاسي عبر ترشيح يقوم به ممثلها سعد الحريري للعبث بتحالفات سورية والمقاومة، فتكون الرسالة الأميركية قطرية بترشيح موازٍ، يزيد العبث عبثاً، لكنه يعطل التعطيل بالتعطيل، وهذا مثل سواه لا يكون من دون أن تكون يد واشنطن في الترشيحين، ولها فيهما ضمن حسابها مع المقاومة مآرب أخرى.
تبقى سورية بيضة قبّان الصراعات الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، وقبان الأوزان الجيوسياسية للدول فيها. وفي سورية انتقلت السعودية من صانع المشروع الشامل للتغيير والواقف في الظل، إلى قائد الخطّ الأمامي في الهجوم، إلى حامل حق الفيتو في خطوط الدفاع عن مشروع يتلقى الضربات، وصولاً إلى شريك مشكوك في صدقيته في صناعة التسويات. ومع التراجعات الإجمالية التي أصابت مشروع التغيير في سورية، ستكون السعودية أكبر الخاسرين في الأوزان وفقاً لمؤشرات القبان السوري، والجولة الراهنة هي جولتها بامتياز.
تموضعت السعودية وراء ثلاثة خطوط يستحيل عليها الصمود، فهي تعاكس مسار المتغيّرات الدولية والإقليمية، وتبدو كمن يكرّر فعلته الفاشلة بثوب واسم جديدين. فتعيد ما فعلته تحت شعار العمل السياسي، وإظهار الواقعية عندما قامت بقيادة الدعوة إلى قطع العلاقات مع إيران وفي نسيج خيال صنّاع القرار فيها سيناريو يبدأ بقطع دول الخليج علاقاتها بطهران، يليهم العرب عبر قرار من الجامعة العربية، ويتوّهم المؤتمر الإسلامي بإخراج إيران من صفوفه، كما أخرِجت سورية من الجامعة العربية. فيصير ممكناً بِاسم هؤلاء جميعاً مطالبة مجلس الأمن بوقف تنفيذ قرار رفع العقوبات عن إيران حتى تتعهّد وتلتزم تطبيق القرارات الصادرة من مؤسسات مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والنتيجة أن العقوبات رُفِعت والعلاقات لم تُقطَع، والأموال المحجوزة بدأت تتدفّق على إيران. فالمعلوم إذن أنه حُصْرُم رأته الرياض في حلب، وها هي تعيده عشية موعد انعقاد مؤتمر جنيف الخاص بسورية.
خط الحماية السعودية الأول هو «جنيف 1» بدلاً من التوافق الدولي الذي صار معه جنيف الأول، وحتى نصوص فيينا مجرّد مسودّات تمهيدية لولادته فقدت قيمتها السياسية بعد صدور إطار قانوني للعملية السياسية في سورية هو القرار 2254. وسيحاول السعوديون ومَن معهم من واجهات سورية، الحديث كثيراً عن هيئة حكم انتقالي، حتى يكتشفوا أن الدعوة إلى جنيف تتمّ تحت سقف التحضير لحكومة تشارك فيها المعارضة تحت ظل رئاسة الرئيس بشار الأسد وصلاحياته الدستورية. أما الخط السعودي الثاني فهو تفخيخ الوفد المعارض بحصر تشكيله بجماعة «مؤتمر الرياض» وضم رموز إرهابية مثل «جيش الإسلام» إلى مقدّمة صفوفه. والرهان أن ترفض الحكومة السورية المشاركة في جنيف، وها هي الحملة ترتدّ على السعودية فيصير الضغط الدولي للمرّة الأولى على السعودية لا على سورية، ومحوره إبعاد «جيش الإسلام» من جهة، وتقاسم مقاعد الوفد المعارض بين «مؤتمر الرياض» و«قوات سورية الديمقراطية»، حيث التمثيل الكردي، إضافة إلى تمثيل «هيئة التنسيق عن المعارضة الداخلية» من جهة أخرى.
الخط السعودي الثالث هو الرهان على حماية فرنسية لـ«جيش الإسلام» ولمبدأ هيئة الحكم الانتقالي، والموقف من الرئاسة السورية، وتشكيلة الوفد المعارض. وفرنسا التي تراهن عليها السعودية، هي التي تتقن مع واشنطن في اعتراضاتها سياسة العروس التي تمانع الزواج وتقول لوالديها: «لا أريد العريس، لكن ببكي وبروح».
جولة ميدانية ستحسم مصير «جيش الإسلام» وتوازنات التفاوض، والجولة السياسية حسمها القرار الأممي 2254، والسعودية ستضطر في نهاية المطاف لأن تجلس مع تركيا على مقعد واحد، عنوانه «عنقود عنب فشلنا في قطافه، فلنقل إننا لم نكن نريده، فنردّد هذا حُصْرُم رأيناه في حلب»، أليست هذه لغة الثعالب؟
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.